ذات يومٍ، وفي ربوع المدينة النبويّة، كان من أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- عجباً!، فبعد أن صلّى بالناس صلاة الفجر قام من مكانه، فصعد على المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، ثم شرع في حديث مطوّل مع أصحابه!، حتى بلغ من فرط طوله أنه لم يتوقّف عن الكلام سوى ما كان من أوقات الصلاة حتى غربت الشمس وذهب اليوم كلّه ، أما مادة الخطاب فهي ما عبّر عنها حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بقوله:" ما ترك شيئا يكون من مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه" رواه البخاري.
ومن هذه الخطبة النبويّة المشهودة، ومن مواقف أخرى، روى لنا الصحابة الكثير من الأمور الغيبيّة التي أطلع الله سبحانه وتعالى بها نبيّه لتكون دليلاً على نبوّته وصدق رسالته، ولتكشف لنا ما ستؤول إليه الأمور وتتطوّر فيه الأحداث لتظهر معالم النهاية : نهاية الدنيا، ومن جملة تلك القضايا الغيبية لأشراط الساعة قضيّة خروج
المهدي المنتظر في آخر الزمان.
وإنها لقضيّة كبيرة، ومسألة عظيمة، لها الكثير من الارتباطات في جوانب عدة ، فمن جانب: لها ارتباط بالركن الخامس من أركان الإيمان: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر) كما صحّ الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم، ومن جانب آخر: هي علمٌ من أعلام النبوّة ودليلٌ من أدلتها، وإن كنّا لم نرها فإنا ننتظر وقوعها وحدوثها، ومن جانب ثالث: أنها من مقتضيات الشهادة بأن محمداً عليه الصلاة والسلام رسول الله، فمن لوازمها المتفق عليها: طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وتصديقه فيما أخبر، وقضيّة
المهدي عليه السلام تدخل في جملة الأخبار النبويّة وأشراط الساعة الكبرى.
ومن جانب رابع : فيها توضيح لقضيّة محوريّة كان لها العديد من الآثار السياسية والتاريخية منذ فجر التاريخ الإسلامي وحتى يومنا هذا، خصوصاً مع الأدعياء الذين استغلّوا هذا المعتقد أبشع استغلال لبلوغ مآربهم الشخصيّة في الزعامة والملك، والطاعة والولاء.
ونظراً لأهميّة هذه القضيّة وكثرة من ولج فيها بالباطل، كان لابد من تجليتها وتوضيحها، وتأصيلها تأصيلاً شرعيّاً مستمدّاً من الكتاب وما صحّ من السنّة، مستأنسين بأقوال العلماء الراسخين الذين أثبتوها وصدّقوها، فلا تحريف ولا تأويل، ولا طعن ولا تكذيب، ومن ثم وضعها في إطارها الشرعي والعقدي الصحيح .
ومن الدواعي كذلك: إزالة ما تعلّق بهذه القضيّة الخطيرة من الأوهام والأباطيل، وإعادة العقول المنكِرة لها إلى جادة الصواب، ونقض الأصول الباطلة واللوازم الفاسدة التي بنوا عليها إنكارهم لهذه القضيّة الغيبيّة، في نظرةٍ متوازنة تُظهر جانباً من حقيقة المناهج "العقلانيّة" التي غلت في تقديس العقل حتى جعلته حاكماً على الوحي.
كما تظهر حقيقة المناهج "اللا عقلانيّة" التي طرحت عقلها جانباً، وتركته نهبا للخرافات التي عاثت فيه فساداً ، وأضفت الكثير من الأساطير حول ذلك الرجل الصالح الذي بشّر به الرسول –صلى الله عليه وسلم- في آخر الزمان، وعبثت بمصادر التلقّي وخلطت الغثّ بالسمين، حتى فقدت القضيّة معناها وحكمتها الإلهيّة السننيّة.
على أن الأمر ليس متعلّقاً بالجانب التأصيلي والتنظيري لها المعتقد فحسب، بل هو متعلّقٌ كذلك بمسألة تنزيل النصوص الواردة على أرض الواقع.
ومع سلسلة من المقالات التي سنتباحث فيها أمر المهديّ والمهدويّة، جاعلين هذا المقال كالتوطئة لما بعده، ومن الله نستمدّ العون والتوفيق.
التعريف بالمهدي وإطلاقاته في اللغة وفي الشرع
مصطلح "المهدي" مأخوذ من الفعل "هُدي"، فيقال: هُدي هدايةً فهو مهتدٍ ومهدي، والهدى يُطلق على الرشاد وعلى الدلالة، فقولهم: هذا هدى الله أي رشاده، ويقولون: هديته الطريق فما اهتدى أي دللته، كما قال الجوهري في الصحاح: "الهدى: الرشاد والدلالة، يؤنَّث ويذكَّر، يقال: هداه الله للدين هدى، وقوله تعالى: { أو لم يهد لهم } (السجدة:26)، قال أبو عمرو بن العلاء: أو لم يُبيِّن لهم. وهديته الطريق والبيت هِداية، أي عرَّفته..وهدى واهتدى بمعنى واحد".
وفي كتاب الكليّات للإمام أبي البقاء الكفوي بيان لمعنى الهدى: ".. والهدى اسم يقع على الإيمان والشرائع كلها؛ إذ الاهتداء إنما يقع بها كلها و:{ إنَّ الهُدى هُدَى الله } (آل عمران:73) أي الدين".
هذا عن الأصل اللغوي لمصطلح "المهدي"، أما عن الإطلاق الشرعيّ له فهو باعتبارين، أولهما: الاعتبار العام المأخوذ من الأصل اللغوي، بأن
المهدي هو الذي أرشده الله إلى سبيله ووفقه لسلوك طريقه، ومن هذا القبيل جاء دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم- لجرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قوله: ( اللهم ثبّته، واجعله هادياً مهديّاً) متفق عليه، ودعاؤه عليه الصلاة والسلام لأبي سلمة رضي الله عنه :( اللهم اغفر لأبى سلمة وارفع درجته فى المهديين) رواه مسلم، ومنه أيضاً دعاؤه عليه الصلاة والسلام للصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان بقوله: ( اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به) رواه الإمام أحمد والترمذي، بل جاء وصفاً لنبي الله عيسى بن مريم عليه السلام، وذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى بن مريم إماما مهديّاً، وحكماً عدلاً) رواه أحمد في مسنده.
كما جاء هذا الوصف في حق الخلفاء الراشدين، في الحديث المشتهر عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، وفيه: ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) رواه أصحاب السنن عدا النسائي وأخرجه الإمام أحمد، يقول الإمام ابن الأثير موضحاً معنى الحديث: "المهدي : الذي قد هداه الله إلى الحق وقد استعمل في الأسماء حتى صار كالأسماء الغالبة .. ويريد بالخلفاء المهديين أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم وإن كان عاما في كل من سار سيرتهم".
ومثل هذا التعميم اللغوي ورد على ألسنة أهل الفصاحة والبلاغة، فأُثر عن شاعر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حسان بن ثابت وفي معرض رثائه للنبي - صلى الله عليه وسلم - قوله:
ما بال عينك لا تنام كأنها ... كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعاً على
المهدي أصبح ثاوياً ... يا خير من وطيء الحصى لا تبعد
وورد على لسان زهير بن القين وصفه للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قوله :
أقدم هديت هادياً مهدياً ... فاليوم تلقى جدّك النبيا
أما الاعتبار الثاني فهو الاعتبار الخاصّ، بأن يكون المقصود هو
المهدي الذي جاءت الأخبار بخروجه آخر الزمان، وهذا المعنى هو الأشهر والأعم، وهو المقصود من البحث، يقول اللغوي المرتضى: " قد استعمل في الأسماء حتى صار كالأسماء الغالبة وبه سمي
المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجيء في آخر الزمان".
أقسام الناس في
المهدي عليه السلام
انقسم الناس في شأن
المهدي المنتظر إلى ثلاثة أصناف :
صنفٌ أنكروا هذه القضيّة، وردّوا الأحاديث الصحيحة والأقوال المأثورة والحجج الدامغة، وذلك حين عجزت عقولهم عن إدراك الحكمة الإلهيّة من خروج
المهدي آخر الزمان، واعتبروا قضيّته "فتنةً" جرّت على الأمة ويلات وتسببت في إراقة الدماء وفي ضلال الناس وبعدهم عن جادة الصواب، بل قال قائلهم: " لن يفرض –أي الرسول عليه الصلاة والسلام-على أمته التصديق برجل من بني آدم ، مجهول في عالم الغيب ، ليس بملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولا يأتي بدين جديد من ربه بما يجب الإيمان به ، ثم يترك أمته يتقاتلون على التصديق والتكذيب به إلى يوم القيامة ، إن هذا من المحال أن تأتي الشريعة به إذ هو جرثومة فتنة دائمة! ، ومشكلة لم تحل".
وصنفٌ على النقيض من ذلك تماماً ، حيث تجاوزوا حدّ الاعتدال إلى الغلو في الإثبات، فتضخّم معتقدهم في
المهدي عليه السلام، ونسبوا له قدرات أسطوريّة وأحوالاً خرافيّة، وما داخلهم هذا الضلال إلا لفساد منهجهم في التعامل مع الأخبار الواردة، حيث قبلوا كل ما جاء دون تمحيصٍ أو تدقيق، فكان أن نسبوا للمهدي عليه السلام ما ليس فيه، وخلطوا بين الحق والباطل.
والحق دائماً وسطٌ بين طرفين، وهو الموقف الذي اتخذه علماء أهل السنة والجماعة على مرّ العصور وتوالي الدهور، فأثبتوا أصل المعتقد في
المهدي المنتظر، باعتباره رجلاً صالحاً بشّر به النبي –صلى الله عليه وسلم- يصلحه الله في يومٍ وليلة، وله دورٌ محوري في العصر الذي يظهر فيه مع حاجته للشرفاء من الأمة حوله، ليس بنبي ولا معصوم ولكن إمام مهدي وموفق للحق، وبتوفيقه يتنعّم الناس في زمانه بالعيش الرغيد والخير الوفير والأمن والأمان، وسوف نقف على صفاته بشكل أوسع في الأجزاء الباقية من الموضوع بإذن الله تعالى