سبب تحريم الطيرة
إذا تأملنا في النصوص الواردة في
الطيرة والتشاؤم وما ذكره الشرّاح في حقيقة ومظاهر كلٍّ منهما، أمكننا أن نصل إلى الأسباب التي أدّت إلى تحريمها والتشديد في النهي عنها وهي كالآتي:
أولاً: مناقضة هذه المعتقدات وتلك التصرّفات لمقتضى التوحيد وحقيقته، خصوصاً ما يتعلّق بتوحيد الألوهيّة، إذ الواجب على العباد أن يفردوا الله سبحانه وتعالى بجميع أنواع العبادة، ويدخل ضمن ذلك العبادات القلبية ومنها التوكّل، والحال أن المتطيّرين قد أخلّوا بهذه العبادة حين انصرفت قلوبهم إلى غير الله عزّ وجل واعتمدت على غيره، وتلك أمارةٌ بيّنة وعلامةٌ واضحة على ضعف يقين العبد بربّه وإخلاله بهذا الأصل، وهو الأمر الذي يفتح أبواب الخوف من المخلوقين.
ثم إن الالتفات الحاصل من المتطيّرين والمتشائمين إلى غير الله تعالى هو بالضرورة تعلّقٌ بأوهامٍ لا حقيقة لها ولا مستند لصحّتها، بل هي ضربٌ من ضروب الدجل والخرافة، ولا شكّ في مباينتها لما هو واجبٌ من إخلاص الاستعانة بالله وحده دون ما سواه.
يقول الإمام ابن القيم: "التطير هو التشاؤم بمرئيٍ أو مسموع ، فإذا استعملها الإنسان فرجع بها من سفر ، وامتنع بها عما عزم عليه فقد قرع باب الشرك ، بل ولجه ، وبرئ من التوكل على الله سبحانه، وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله والتطيّر مما يراه أو يسمعه ، وذلك قاطع على مقام: { إياك نعبد وإياك نستعين} وقوله: {فاعبده وتوكل عليه} وقوله: {عليه توكلت إليه أنيب} فيصير قلبه متعلقاً بغير الله عبادة وتوكلاً ، فيفسد عليه قلبه وإيمانه وحاله ، ويبقى هدفاً لسهام
الطيرة ، ويُساق إليه من كل أرب ، ويقيض له الشيطان من يفسد عليه دينه ودنياه ، وكم هلك بسبب ذلك وخسر الدنيا والآخرة".
ثانياً: التطيّر يحمل في طيّاته سوء ظنٍّ بالله عزّ وجل، ويُنافي الثقة به وتسليم الأمور إليه والرضا بقضائه وقدره، وهذا هو ظن الجاهلية ، واعتقاد السوء الذي لا يليق به سبحانه ولا بحكمته وحمده ويتنافى مع جلاله وكماله وصفاته ونعوته ، فضلاً عن كونه من أبرز صفات
الجاهليّة كما قال تعالى: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية}( آل عمران:154 ) وفي آيةٍ أخرى: { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء} (الفتح:6 )، وإلا فإن الواجب على المؤمن أن يُحسن الظن بربّه الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، فيثق في حكمته سبحانه فيما قضى وقدّر على عباده وأنّه خيرٌ كلّه حالاً أو مآلاً ولو كان ظاهره ابتلاء وعذابٌ وشدة.
ثالثاً: ظهور آثار سلوكيّة سلبيّة على أصحاب هذه المعتقدات، فإنه من كان معتنيا بها قابلاً لها تفتَّحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه، ويُنكد عليه عيشه.
والمتطير متعب القلب، منكد الصدر، كاسف البال، سيء الخلق، يتخيَّل السوء من كل ما يراه أو يسمعه، وإنك لتجده من أشد الناس خوفاً، وأنكدهم عيشاً، وأضيق الناس صدراً، وأحزنهم قلباً، كثير الخوف من المجهول والتوجّس من المستقبل، أبعد الناس عن اطمئنان النفس، وهدوء البال، وقرّة العين، وارتياح الضمير، كثير الاحتراز والمراعاة لما لا يضره ولا ينفعه، إذا سمع كلمةً سيّئةً أوّلها أسوأ تأويل، وحملها أسوأ محمل، ينظر إلى الدنيا بمنظارٍ أسود، وكم قد حرم نفسه بذلك من حظ، ومنعها من رزق، وقطع عليها من فائدة، ويالتعاسة من ضعف توكّله على ربّه ومولاه.
مواقف الناس من
الطيرة والتشاؤم
للناس مواقف متباينة تجاه ما يرونه من الأحوال الداعية إلى التشاؤم، فمن الناس من يتطيّر ويُحجم عن أفعاله التي كان ينوي فعلها، فإذا كان عازماً على السفر نقض عزمه في ذلك، وإذا أراد سلوك طريق فرأى ما يُفزعه تحوّل إلى طريق آخر، فهذا مستجيبٌ لداعي التطيّر واقعٌ في المحرّم المنهي عنه شرعاً، بل جاء في حقّه الوعيد الشديد في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (من ردته
الطيرة عن حاجة فقد أشرك) رواه الإمام أحمد، ويُخشى عليه إن استمرّ في هذا الطريق أن يتلاشى عنده الأمل تماماً فيفقد الثقة بخالقه وييأس من روحه، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
ومن الناس من إذا رأى تلك الأمور لا ينقض عزمه ويترك ما نوى فعله، لكن يساوره قلق عظيم وتخوّف كبير مما قد يحدث له ويظلّ متوجّساً حتى يُتمّ فعله، ولا شكّ أن هذا القسم أهون من سابقه لا يكون قد ولج باب الشرك أو استحقّ البراءة من الإسلام على ما جاء في قول النبي -صلى الله عليه و سلم- قال : ( ليس منا من تَطير ولا تُطير له ) رواه البزار، إلا أن تشاؤمه مشعرٌ بضعفِ إيمانه وقلّة توكّله على الله عزّ وجل.
أما أوفر الناس حظّاً من هذين الفريقين من لا يتطيّر ابتداءً، ولا يستجيب لداعي التطيّر، ولا يلتفت قلبه إلى هذه الهواجس بل تمرّ على قلبه مروراً سريعاً ثم تخرج منه، لأنه حقّق إيمانه وامتلأ قلبه بالتوكّل فصدق اعتماده على الله وتوكله عليه ، فكان حقّه أن يدخل الجنّة بغير حسابٍ ولا مساءلةٍ ولا عذاب كما صحّ بذلك الحديث.
هل كل من تطيّر فهو مشرك؟
إن كل هذه الأحاديث التي أوردناها من قبل تبين حرمة
الطيرة وعظيم خطرها وأنها من الشرك، إلا أن الحكم يختلف بحسب اعتقاد المتطير، فإن اعتقد المتطير تأثير
الطيرة بنفسها دون تقدير الله سبحانه كان ذلك من الشرك الأكبر المخرج من الإسلام. والعرب كانت تعتقد تأثير
الطيرة ويقصدون بها دفع المقادير المكتوبة عليهم، فكان حقيقة حالهم أنهم طلبوا دفع الأذى من غير الله تعالى.
وأما إن اعتقد أن حركة الطير مجرد سبب لجلب الخير ودفع الشر فيكون شركاً أصغر لا يخرج من الإسلام ، وذلك لأنه أثبت سببا لم يثبت تأثيره شرعا ولا قدراً . والقاعدة هنا أن كل من اعتمد على سبب لم يجعله الشارع سببا لا بوحيه ولا بقدره فإنه مشرك شركاً أصغر.
عن قولهم: فأل الله ولا فألك
اشتهر على ألسنة الناس في أيامنا هذه قولهم: "فال الله ولا فالك"، فما مرادهم من هذه العبارة وهل ثمّة محذورٌ في إطلاقها، في الحقيقة أن الناس يقولون "فأل الله" ويقصدون به أنهم يلتمسون الفأل من الله سبحانه وتعالى، لاعتقادهم أن كل قضاء الله خيرٌ، وكلّ أفعاله منوطةٌ بالحكمة، ولذلك صحّ من دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم- قوله: ( والشرّ ليس إليك)، فيكون التفاؤل بالله سبحانه وتعالى دون التفاؤل بما يسمعونه من كلام من يتوجّسون منه ويتخوّفون شرّه، وهي بهذا المعنى إطلاقٌ صحيح.