لا نزاع بين أهل السنّة والجماعة، بدءاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومروراً بالتابعين ومن تبعهم بإحسان، وانتهاءً بعلماء أهل السنّة الثقات، السائرين على طريق الصحابة - لا نزاع بينهم أبداً في إثبات الشفاعة، تلك القضيّة الأخرويّة المتعلّقة ببيان تجاوز الله تعالى عن ذنوب بعض العصاة، والصفح عن آخرين بعد استحقاقهم لدخول النار، وإخراج فئامٍ من أصحاب الكبائر منها ليدخلوا الجنّة.
وقد ورد ذكر
الشفاعة وبيان حقيقتها وثبوتها كثيراً على ألسنة الرعيل الأوّل من سلفنا الصالح، مما يُعزّز إيماننا بها كمسلّمةٍ عقديّة ينبغي الإيمان بها دون غلوٍ أو إجحاف، وسوف نستعرض هنا شيئاً من مقالاتهم في شأن الشفاعة.
روى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: "أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه منادياً، فنادى: أن الصلاة جامعة، ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: سيجيء قوم من هذه الأمة يكذبون بالرجم، ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بالحوض، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعدما أدخلوها" رواه عبدالرزاق في مصنفه، ورواه أحمد في مسنده مختصراً.
وعن يزيد الفقير أنه قال: كنت قد شغفني رأيٌ من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابةٍ –أي: جماعةٍ من الناس- ذوي عددٍ، نريد أن نحج، فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما جالس إلى سارية، يحدث القوم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا هو قد ذكر الجهنّميين، فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} (آل عمران: 192) و:{كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} (السجدة: 20)، فما هذا الذي تقولون؟ فقال جابر: "أتقرأ القرآن؟" قلت: نعم، قال: "فهل سمعت بمقام محمد عليه الصلاة والسلام - يعني الذي يبعثه الله فيه -؟" قلت: نعم، قال: "فإنه مقام محمد -صلى الله عليه وسلم- المحمود، الذي يُخْرِج الله به من يخرج"، قال: ثم نعت –أي وصف- وضع الصراط، ومرور الناس عليه، غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، فيدخلون نهراً من أنهار الجنة، فيغتسلون فيه، فيخرجون كأنهم القراطيس، فرجعنا فقلنا: ويحكم، أترون الشيخ يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فرجعنا، فلا والله ما خرج منّا غير رجل واحد، رواه مسلم.
والجهنّميون هم أناسٌ يُعذّبون في نار جهنّم بسبب ذنوبهم وجناياتهم، ثم يدخلهم الله عزّ وجل الجنة بفضله ورحمته، وقول الراوي: " كأنهم عيدان السماسم" تشبيه للخارجين من النار بعيدان نبات السمسم، فإنها إذا قُلعت وترُكت في الشمس تعود سوداء كأنها محترقة، وقوله: " فيخرجون كأنهم القراطيس" تشبيهٌ لهم بالقراطيس لشدّة بياضهم بعد اغتسالهم، وقوله: " فلا والله ما خرج منّا غير رجل واحد" فيعني أنهم قد عادوا جميعاً إلى الحق عدا رجلاً واحداً.
وكان لزيدٍ المذكور في الحديث السابق نقاشٌ آخر مع جابر رضي الله عنه حول الشفاعة، فقد قال له: يا أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن قوماً يخرجون من النار، والله يقول: {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها} (المائدة: 37) وإنكم تجعلون العام خاصّاً، فقال لي جابر: فاقرأ ما قبلها، فإذا هي في الكفار" رواه اللالكائي.
وقال طلق بن حبيب: " كنت أشد الناس تكذيباً بالشفاعة، حتى لقيت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها فيها ذكر خلود أهل النار، فقال لي: يا طلق، أتراك أقرأ لكتاب الله وأعلم بسنة نبيه مني؟ قلت: لا، فقال جابر: فإن الذي قرأت هم المشركون، ولكن هؤلاء –يعني المنتفعون بالشفاعة- أصابوا ذنباً فُعّذبوا، ثم أُخرجوا من النار، وأومأ جابر بيده إلى أذنيه فقال: صُمَّتا، إن لم أكن سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نقرأ الذي تقرأ " رواه اللالكائي.
وهو دعاء من جابر - رضي الله عنه - على نفسه بالصمم إن كان كذب على رسول الله عليه الصلاة والسلام فيما يقول.
وعن عبد الله الرومي قال: جاء رجل إلى أنس بن مالك رضي الله عنه وأنا عنده، فقال: يا أبا حمزة، لقيت قوما يكذّبون بالشفاعة وعذاب القبر. فقال أنس رضي الله عنه: أولئك الكذّابون فلا تجالسهم. ذكره ابن بطّة في الإبانة، وعنه رضي الله عنه أنه قال: "من كذّب بالشفاعة فلا نصيب له فيها". رواه الآجري في كتاب "الشريعة".
كما أثبت هذه
الشفاعة الأئمة الأربعة رحمهم الله، يقول الإمام أبو حنيفة: "وشفاعة نبينا عليه الصلاة والسلام للمؤمنين المذنبين، ولأهل الكبائر منهم، المستوجب العقاب، حقٌّ ثابت"، وجاء عنه أيضاً: "والإيمان بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبقوم يخرجون من النار بعد ما احترقوا وصاروا فحمًا، فيؤمر بهم إلى نهرٍ على باب الجنة، كما جاء في الأثر، كيف شاء الله ، وكما شاء، إنما هو الإيمان والتصديق به".
وسأل عبدالله ابن الإمام أحمد أباه، عما يُروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في
الشفاعة ؟ فقال : هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقرّ، وكل ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأسانيد جيدة نؤمن به ونقر. فقال له : وقوم يخرجون من النار؟ فقال: نعم، إذا لم نقرّ بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودفعناه، رددنا على الله أمره، قال عز وجل: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر:7). فقال له عبدالله: والشفاعة؟ قال : كم حديث يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في
الشفاعة والحوض ، فهؤلاء يكذّبون بها ويتّكلون ، وهو قول صنف من الخوارج، وأن الله تعالى لا يُخرج من النار أحدًا بعد إذْ أدخله، والحمد لله الذي عدل عنّا ما ابتلاهم به".
وقال علي بن المديني: "الإيمان والتصديق بالشفاعة، وبأقوام يخرجون من النار بعد ما احترقوا وصاروا فحماً ، كما جاء في الأثر، والتصديق به والتسليم".
وقال ابن أبي عاصم : "والأخبار التي روينا عن نبينا –صلى الله عليه وسلم- فيما فضّله الله به من الشفاعة، وتشفيعه إياه فيما يشفع فيه، أخبارٌ ثابتة موجبة بعلم حقيقة ما حوت عليه، جعلنا الله وكل مؤمن بها مُؤَمِّل لها من أهلها".
ونختم بقول ابن عبد البر بعد أن ساق الأحاديث والآثار في
الشفاعة : "..كل هذا يكذّب به جميع طوائف أهل البدع: الخوارج والمعتزلة والجهمية، وسائر فرق المبتدعة ؛ وأما أهل السنة، أئمة الفقه والأثر في جميع الأمصار، فيؤمنون بذلك كله، ويصدّقونه، وهم أهل الحق، والله المستعان".