بُعث
النبي –صلى الله عليه وسلم- والبشريّة هائمةٌ على وجهها، ليس لها طريقٌ تسلكه، ولا غايةٌ تتطلّع نحوها، ولا منهجٌ يضبط مسارها، وكانت بعثته في وقتٍ عصيبٍ كان الجهل فيه سيّد الكلمة، والخرافة منبع التصوّرات، والوثنيّة ديناً سائداً، في حالة من جاهليّةٍ جهلاء تموج بالأساطير، وليس فيها اتصالٌ للأرض بالسماء، ولا تمييزٌ بين حقٍ وباطل، وهدى وضلال، وحسنٍ وقبيح، انقلبت معها الموازين والأعراف حتى استوجبت بسببها غضب الله ومقته.
جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: (إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب).
وبعيداً عمّا حقّقته
بعثة النبي المختار من علاج ما وصلت إليه البشريّة من تردٍ عقدي، وخواءٍ روحي، والبحث في ذلك المجال، فإن لبعثته عليه الصلاة والسلام ارتباطاً بأحداث النهاية، وأشراط القيامة، وانتهاء قصّة الوجود البشري.
ونجد هذا الارتباط تبرز معالمه، وتتضح حقيقته، من خلال ما جاء في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: رأيت
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال بإصبعيه هكذا -بالوسطى والتي تلي الإبهام-: (بعثت والساعة كهاتين).
وروى الإمام أحمد في مسنده، وابن أبي شيبة في مصنّفه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بُعثت بين يدي
الساعة بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له).
وروى الترمذي وصححه، ورواه أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، وأشار بالسبابة والوسطى، فضّل إحداهما على الأخرى. وهذا الفضل المذكور في الحديث إشارة إلى التفاوت ما بينهما.
وتحتمل الإشارة بالأصبيعين: السببابة والوسطى أحد معنيين، وإن اتفقا على حقيقة قرب قيام الساعة، كما قال الإمام القرطبي في شرحه لصحيح مسلم ما نصّه: " حاصل الحديث تقريب أمر
الساعة وسرعة مجيئها".
أما المعنى الأوّل، فهو أن المقصود بالتمثيل ما كان من المسافة بين السبّابة والوسطى، فشبّه
النبي –صلى الله عليه وسلم- قرب قيام
الساعة بقدر ما بينهما.
وقيل: إنما كان مقصود
النبي –صلى الله عليه وسلم- بالتمثيل، الإشارة إلى الفارق في الطول ما بين السبّابة والوسطى، واستدلّوا بما جاء في الرواية السابقة: "فضّل إحداهما على الأخرى"، وما جاء عن قتادة من قوله: " كفضل إحداهما على الأخرى".
يقول الإمام الطبري: " فضل ما بين السبابة والوسطى نحو نصف سبع، وكذلك قدر ما بين صلاة العصر في أوسط نهارها بالإضافة إلى باقي النهار نصف سبع اليوم تقريباً"، ثمّ مثّل لذلك مثالاً للتقريب: " فإن كانت الدنيا سبعة آلاف سنة، فنصف يوم خمسمائة سنة".
وقد حاول بعض العلماء استناداً إلى التفسير السابق أن يتوصّل إلى عمر الدنيا على وجه التقريب، وهو أمرٌ لا يخفى بعده عن قواطع الشريعة التي تدلّ على عدم إمكان ذلك، وقد ردّ عليهم الإمام ابن حزم بقوله: "وقد جاء النص بأن
الساعة لا يعلم متى تكون إلا الله عز وجل لا أحد سواه، فصح أنه عليه السلام إنما عني شدة القرب، لا فضل طول الوسطى على السبابة، إذ لو أراد فضل ذلك، لأُخذت نسبة ما بين الأصبعين، ونسب ذلك من طول الوسطى، فكان يعلم بذلك متى تقوم الساعة، وهذا باطل".
وقال القاضي عياض: " حاول بعضهم في تأويله أن نسبة ما بين الأصبعين كنسبة ما بقي من الدنيا بالنسبة إلى ما مضى، وأن جملتها سبعة آلاف سنة، واستندوا إلى أخبارٍ لا تصح" ثم ذكر ما أخرجه أبو داود في تأخير هذه الأمة نصف يوم، وتفسيرهم بأن ما بقي هو خمسمائة سنة، فردّ عليهم قائلاً: "وقد ظهر عدم صحة ذلك لوقوع خلافه، ومجاوزة هذا المقدار، ولو كان ذلك ثابتا لم يقع خلافه".
وبعيداً عن هذا التأويل غير المستساغ لعمر الدنيا، والتعامل غير الصحيح مع النصوص السابقة، فإن الصحيح المقطوع به هو أن مراد
النبي –صلى الله عليه وسلم- من التشبيه المذكور هو القرب الشديد لقيام الساعة.
ومما يتّصل بهذه المسألة بيان أن مجرّد وجود
النبي –صلى الله عليه وسلم- في تلك الحقبة التاريخيّة، وما هيّأه الله سبحانه وتعالى من قيام الأمة المسلمة، إنما هو وجود لنبيٍّ خاتمٍ للأنبياء بُعث في أمّة مختارة كُتب عليها أن تكون في آخر الأمم المشهودة، وأن في ذلك إشارتين مهمّتين: تحقّق خاتميّته –صلى الله عليه وسلم- وألاّ نبيّ بعده، وأن شمعة الحياة كادت تذوب بأكملها.
ففي الإشارة الأولى، يُعلّق العلماء على قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : (بُعثت أنا والساعة كهاتين)، أنه ليس بينه وبين
الساعة نبي، كما ليس بين السبابة والوسطى أصبع أخرى، فسلسلة النبوة قد توقّفت، واتصال الأرض بالسماء قد انقطعت.
وفيما يتعلّق بالإشارة الثانية، فنستفيده من الدلالات الضمنية الآيات المتواترة الدالة على قرب قيام الساعة، قال الله عز وجل: {اقتربت الساعة} (القمر:1)، وقال سبحانه وتعالى: {وما يدريك لعل
الساعة تكون قريباً} (الأحزاب:63).
وفي الصحيحين عنابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس) - وفي لفظ -: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس).
وقد فهم الصحابة هذا القرب الشديد لنهاية الدنيا، والذي حقّقته
بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم-، فقد روى مسلم في صحيحه، أن عتبة بن غزوان رضي الله عنه خطب في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، يتصابها صاحبها"، والصرم: الانقطاع والانصرام، والحذاء: السريعة الخفيفة التي قد انقطع آخرها، والصبابة: البقية اليسيرة تبقى في الإناء من الشراب، ويتصاباها: أي يجمعها.
ولا منافاة بين تقريب أمر
الساعة وبين قول
النبي –صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل الشهير: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) فإن المراد بالأوّل بيان اقتراب أمر الساعة، وأنه ليس بينه وبين
الساعة نبي، كما ليس بين السبابة والوسطى أصبع أخرى، ولا يلزم من ذلك علم وقتها بعينه، لكن سياقه يفيد قربها، وأن أشراطها متتابعة، كما قال تعالى في محكم كتابه: {فقد جاء أشراطها} (محمد:18).
ولعلمه عليه الصلاة والسلام بأن مبعثه مرتبط بأشراط الساعة، كان كثيراً ما يحذّر الناس منها ويذكّرهم بها، وصحّ عنه –صلى الله عليه وسلم- في مسلم، أنه كان إذا ذكر
الساعة احمرّت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش، يقول: (صبّحكم، ومسّاكم).
ولعل سائلاً يسأل: لقد مضت مئات السنين على مبعث
النبي –صلى الله عليه وسلم- ونحن مع ذلك نقول أن بعثته هي بين يدي الساعة، فيجيب الإمام السفاريني المتوفّى سنة 1188 للهجرة: "فإن قيل كيف يوصف بالاقتراب ما قد مضى قبل وقوعه ألف ومائة ونيف وسبعون عاما؟ فالجواب أن الأجل إذا مضى أكثره، وبقي أقلّه، حَسُنَ أن يقال فيه اقترب الأجل، ولا ريب أن أجل الدنيا قد مضى أكثره وبقي أقله، ولقرب قيام
الساعة عنده تعالى جعلها كغد الذي بعد يومك، فقال: {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} (الحشر: 18)، وقال تعالى: {إنهم يرونه بعيدا - ونراه قريبا} (المعارج: 6-7)، والأمر الذي ينبغي أن ينتبه إليه أن الباقي من الدنيا قليل بالنسبة لما مضى منها.
ويضربون لذلك مثلاً: فإنك إذا وضعت لمن لك عليه دين أجلاً طويلاً، كأن تأجّله خمسين عاماً مثلاً، فإذا انقضى من الخمسين خمسة وأربعون، فيكون موعد السداد قد اقترب بالنسبة لما مضى من الموعد المضروب.
وأخيراً: فإن
بعثة البشير النذير –صلى الله عليه وسلم- إيذانٌ بختم النبوة ، وهذا الختم يدلّ على تمام الواجب الرسالي وانتهاء مهمّته للبشريّة، وهذا التغيّر دليل على انتفاء الحاجة إلى
بعثة الإنبياء لوجود الشريعة الحاكمة لما بقي من البشريّة، حتى يأذن الله بطيّ صفحة الحياة ، ونهاية الدنيا، وحلول يوم الحساب.