من عقائد المسلمين أن الله تعالى أرسل في أمم الأرض رسلاً من أقوامهم، وأنبياء إلى شعوبهم، حكى ربنا عز وجل تفاصيل أخبار عددٍ منهم في ثنايا القرآن الكريم، وسردت لنا السنة النبويّة طرفاً من واقعهم، ومن أصول هذه العقيدة: عدم إحاطتنا بسير أولئك
الأنبياء والرسل على وجه التفصيل، فلا أحد يدّعي معرفته الشاملة بأسمائهم جميعاً، ولا بأخبارهم كلّها، ولا بمواطن بعثهم، وأماكن إقامتهم.
فالحال أن الله تعالى أطلع رسوله وكشف له عن جانبٍ ضئيل من ذلك كلّه، فمن الرسل من جاء الوحي الإلهي بقصصه، ومنهم من لم نعلم عنه شيئاً على الإطلاق، وقد جاء التعبير القرآني عن هذه القضيّة العقديّة في قوله تعالى: {ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك} (النساء: 164)، وقوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} (غافر: 78)، فليس كل الرسل قد قص الله لنا أخبارهم.
ومن يرجع إلى الكتب المعنيّة ببيان العقيدة الإسلاميّة يجد إشاراتٍ إلى إمكانيّة معرفة
أعداد الأنبياء والرسل منسوبةٍ إلى جمعٍ من العلماء الربانيّين، مستندين في ذلك إلى عدد من النصوص النبويّة المحدّدة لهذه الأعداد، في حين وقف علماء آخرون موقفاً متحفّظاً من هذه الأحاديث من حيث صحّة سندها أو عدم ثبوتها إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-.
وقبل الشروع في تناول هذه المسألة ينبغي استحضار عدّة نقاط مهمّة تتعلّق بأصل المسألة:
أولاً: الإيمان الكليّ بالأنبياء
والرسل من حيث الجملة، كأصلٍ دلّت عليه نصوص الوحيين واقتضاه العقل السليم.
ثانياً: الإيمان وبشكلٍ جازم بكل من سمّى الله تعالى في كتابه من رسله، وهم
الأنبياء الخمسة والعشرون المذكورون في سور القرآن، وبكلّ من وصلنا اسمه من طريقٍ صحيح عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كنبي الله شيث عليه السلام، ونبي الله يوشع بن نون عليه السلام.
ثانياً: أنه لا يصحّ لنا أن ننسب النبوّة إلى أيّ اسمٍ كائناً من كان، إلا أن يأتينا الإثبات القاطع بصحّة نبوّته فلا نسمي منهم إلا من سمى نبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ فإذا قرأنا في التوراة والإنجيل أسماء من يُقال عنهم أنبياء أو رسل مثل "سموال وحقّاي وحُقُوق" فنقول: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان المذكورون أنبياء فنحن نؤمن بهم، وإن لم يكونوا أنبياء فلا نُدْخِل في أنبياء الله تعالى من ليس منهم، بأخبارٍ كاذبةٍ لا أصل لها ولا يمكن الوثوق بها.
ثانياً: الإيمان بأن
الأنبياء والرسل بلّغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به، وأنهم بينوه بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهلَه، ولا يحل له خلافَه. قال تعالى: {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} (النحل: 35).
ثالثاً: الإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلاً سواهم وأنبياء، لا يعلم حقائقهم على وجه التفصيل إلا الله تعالى الذي أرسلهم: {ورسلا لم نقصصهم عليك} (النساء: 164).
رابعاً: علينا الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى قد أقام الحجّة الرساليّة على مجمل البشريّة، وعلى كلّ الأمم، فأمم الأرض جميعها نجزم بورود
الأنبياء والرسل عليهم، وهذا هو مقتضى النصّ القرآني، قال تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} (فاطر:24).
خامساً: أن بعض الأفراد وربما التجمّعات البشريّة التي لا ترقى أن تكون أمّة كاملةً أو قريةً كبيرة فمن الجائز أن الله لم يُرسل إليهم رسولاً خاصّاً، وإنما خوطبوا بدعوة أنبياء ورسلٍ آخرين، فقامت عليهم الحجّة بذلك، وآخرون من أهل الفترة الذين شاء الله عدم بعث الرسل والأنبياء إليهم وحالهم أن يُختبروا يوم القيامة، فمنهم شقي وسعيد.
سادساً: أن الإشارات الواضحة في النصوص الشرعيّة تُشير إلى أن
الأنبياء والرسل أعدادهم وفيرة وليست بالقليلة.
ومن دلائل ذلك قوله تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترى} (المؤمنون:44) والتواتر كما هو في اللغة: التتابع، فبمقتضى الآية أن الرسل تتابعوا واحداً تلو الآخر، وفي ذلك إشارةٌ ضمنيّة على الكثرة.
ومن جملة الإشارات في هذه القضيّة، ودلالتها أقوى من سابقتها، قوله سبحانه: {وكم أرسلنا من نبي في الأولين} (الزخرف:6) ومدار الدليل كلّه يدور حول معنى كلمة "كم" واستخدامها في الآية.
يقول الشوكاني: "وكم أرسلنا من نبي في الأولين، كم: هي الخبرية التي معناها التكثير، والمعنى: ما أكثر ما أرسلنا من
الأنبياء في الأمم السابقة".
ثم يُذكر هنا الاقتران العقليّ الذي يجمع بين قوله تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } (فاطر:24) وقوله سبحانه: {وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا} (الفرقان:38)، فإذا كانت الأجيال البشريّة كثيرةٌ كما ذكر الله تعالى، ولم تخْلُ أمّة من نذير –والنذير لفظٌ ينطبق على
الأنبياء والرسل جميعاً-، صحّ لدينا القول بكثرة أعدادهم.
بعد تأسيس ما سبق يبقى لدينا الحديث عن جملةٍ من الأحاديث نصّت وبشكلٍ صريح على
أعداد الأنبياء والرّسل، وهي كالآتي:
- حديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل، وفيه: قلت : يا رسول الله، كم
الأنبياء ؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً) ، قلت : يا رسول الله ، كم الرسل منهم ؟ قال : (ثلاثمائة وثلاثة عشر جَمٌّ غفير)، قلت : يا رسول الله ، من كان أولهم ؟ قال : (آدم ) رواه ابن حبان.
-وروي الحديث السابق في مسند أحمد اقتصاراً على ذكر
أعداد الرسل فقط، وفيه: قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال : ( ثلاث مئة وبضعة عشر جمّاً غفيراً).
- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : ( بعث الله ثمانية آلاف نبي ، أربعة آلاف إلى بني إسرائيل ، وأربعة آلاف إلى سائر الناس) رواه أبو يعلى في مسنده.
-حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد سئل عن الخوارج إن كانوا يقرّون بخروج الدجّال، فذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (إني خاتمُ ألف نبي، وأكثر ما بعث نبي يتّبع، إلا قد حذر أمته الدجال) رواه أحمد.
والعلماء قد وقفوا حيال هذين الحديثين موقفين مختلفين:
-فمنهم من ثبتت لديه هذه الأحاديث أو إحداها فأثبت العدد الوارد فيها، ومن هؤلاء الإمام محمد بن أحمد السفاريني، وأبو المظفر المروزى، وظاهر كلام البيضاوي صاحب التفسير، والحافظ ابن حجر، وأبي حيان الأندلسي، والألوسي.
-ومنهم من رأى عللاً تقدح في صحّة هذه الأحاديث، مُدركاً أن العدد لا يمكن معرفته على وجه التحديد إلا بالوحي، فتوقّف في إثبات تلك الأعداد، ومن هؤلاء أبو الفرج بن الجوزي ، الذي ذكر أحد هذه الأحاديث في " الموضوعات "، وثمّة ما يشير إلى أنه قول شيخ الإسلام ابن تيمية ومن قبله: الإمام أحمد، ومحمد بن نصر المروزي، فبعد أن بيّن شيخ الإسلام قول الإمامين السابقين أنهم يؤمنون بالأنبياء والكتب وهم لا يعرفون عدد الكتب والرسل، علّق على ذلك قائلاً: "وهذا الذي ذكره أحمد وذكره محمد بن نصر وغيرهما يبين أنهم لم يعلموا عدد الكتب
والرسل وأن حديث أبي ذر في ذلك لم يثبت عندهم".
ولن نقف كثيراً في دراسة الأسانيد فليس لهذه المقالة مجالٌ في الترجيح والبيان، ويكفينا أن القول بمقتضى تلك الأحاديث أو التوقف فيها منسوبان إلى السلف، فلا نكير على أحد القولين، والأهم من ذلك أن نركّز على ما هو متفق عليه في باب الإيمان بالرسل، كما قال محمد رشيد رضا:" وحسبنا العلم بأن الله تعالى أرسل الرسل في كل الأمم فكانت رحمته بهم عامة لا محصورة في شعب معين احتكرها لنفسه كما كان يزعم أهل الكتاب غير مبالين بكونه لا يليق بحكمة الله، ولا ينطبق على سعة رحمته".