يكاد أن تكون شكوى الناس من القلق وانتزاع الطمأنينة من قلوبهم من أهم مظاهر الحياة المعاصرة، يعود ذلك لأمور كثيرة من أبرزها افتقاد عنصر القناعة، نعم إنها
القناعة بكل أشكالها، والرضا بكل أبعاده، فلم يعد الشخص مقتنعا بما وهبه الله من الرزق، ولا راضيا عن وظيفته وشكله وزوجه ومسكنه حتى الوطن الذي يعيش فيه، والمجتمع الذي حوله، ينظر لكل شيء بسخط وعدم رضا، وهو مع ذلك يتطلع لما ليس بيده، وتستشرف نفسه الكمال في كل شيء.
لأجل هذا كان من أبرز التصورات المحورية في الشريعة الإسلامية: أن الدنيا دار ممر لا دار مقر، وأنها بالنسبة للإنسان إنما هي محطة من المحطات في طريق طويل يمتد إلى ما لا نهاية له في الدار الآخرة، وإنما يتبلغ بها المرء في طريق سفره إلى الله سبحانه وتعالى، ويوضح هذا ما ذكره سلمان -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إليه : " أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب " (رواه ابن ماجه وصححه الألباني)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من أصبح منكم آمنا في سِرْبِه معافىً في جسده عنده قوت يومه فكأنما حِيْزَت له الدنيا " (رواه الترمذي وابن ماجة وحسنه الألباني).
ومن أبرز هذه التصورات أيضاً: أن الإنسان في هذه الدنيا لن ينال إلا ما قسمه الله وقَدَّره له؛ فقد جف القلم بما هو كائن، ولن تموت نفس قبل استيفاء ما كُتِبَ لها كاملاً غير منقوص، ويوضحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس اتقوا الله وأَجمِلوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأَجْمِلوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حَرُم " (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
وقوله: (أجملوا) أي: وأحسنوا في الطلب.
وبناء على هاذين التصورين المحوريين يتجلى خُلُق القناعة.
حقيقة القناعة:
القناعة لغة: مصدر قنع يقنع قناعة. إذا رضي.
وفي الاصطلاح: الرضا بالقَسم.
فضائل
القناعة في
السنة النبوية:
للتحلي بخلق
القناعة فضائل كثيرة دلت عليها
السنة النبوية، منها:
1- أنها سبب لفلاح صاحبها: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه " (رواه مسلم).
وقوله: (كفافا)، قال المناوي: ما كفاه في أمر دنياه وكفه عما سواه. أ.هـ
2-
القناعة تكسب صاحبها محبة الله ومحبة الناس، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس " (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
وعلى قدر ما يقنع الإنسان عما في أيدي الناس على قدر ما تأنس إليه نفوسهم، وتطمئن له قلوبهم، ذلك أن الناس لا يحبون من يتطلع لما في أيديهم من الأموال، فهو عفيف عما في أيدي الناس، وقلبه متعلق بالله وبمحبته فلذلك ليس في قلبه التفات للدنيا وزخرفها، فاستحق محبة الله ومحبة الناس.
3- أنها سبب لنيل الثناء وطيب العيش : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا وقنع " (رواه الترمذي وصححه الألباني).
وقوله : (طوبى)، قال المناوي: قال الطيبي: طوبى مصدر من طاب كبُشْرى وزُلْفى، ومعنى طوبى لك: أصبت خيرا وطيباً. أ.هـ
4- أن
القناعة تورث صاحبها غنى النفس واستعلائها عن الشهوات واللذائذ: وهو ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس " (رواه البخاري ومسلم). قوله: (العرض)، قال ابن الأثير: العَرَض: متاع الدنيا وحطامها، وفي الحديث الصحيح: (يا ابن آدم ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس) رواه مسلم.
5-
القناعة تورث صاحبها العزة وتكف وجهه عن الذل للمخلوقين: ففي الحديث أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " يا محمد: شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس " (رواه الحاكم وصححه الذهبي).
6-القناعة تمنح صاحبها رضا الله وهو غاية المقصود: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط " (رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني).
قال المناوي: (فمن رضي) أي: بالبلاء. (فله الرضا) أي: فليعلم أن له الرضا من المولى، أو فيحصل له الرضا في الآخرة والأولى.
7- أن بها يتحقق شكر العبد لربه: ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة رضي الله عنه : " يا أبا هريرة كن ورعا، تكن أعبد الناس، وكن قنعا، تكن أشكر الناس " (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
فالطامع المستشرف للدنيا قل أن يشكر الله على نعمة، إذ أنه يرى نفسه محروماً مهاناً، فهو ساخط عن أقدار الله، فكيف يتحقق في قلبه معنى الشكر وهو يحمل هذا الكم من الطمع والسخط.
8- أن التحلي بالقناعة سبب لنيل البركة في الرزق: ففي الحديث عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي : " يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه " (رواه البخاري ومسلم).
وقوله: (بطيب نفس)، قال القاضي عياض: فيه احتمالان: أظهرهما أنه عائد إلى الآخذ، أي من أخذه بغير حرص وطمع وإشراف عليه.
الآثار السيئة لترك التحلي بالقناعة من خلال
السنة النبوية:
وكما أن للتحلي بخلق
القناعة من الفضائل الشيء الكثير، فإن لفقدان هذا الخلق الجليل آثاراً سيئة وعواقب وخيمة، أشارت
السنة النبوية إليها، فمن ذلك :
1- أنه سبب لفقدان البركة : ففي الحديث : " إن هذا المال خضرة حلوة، . . . ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع " (رواه البخاري ومسلم).
وقوله: (بإشراف نفس)، قال النووي في شرح مسلم: " قال العلماء: إشراف النفس تطلعها إليه وتعرضها له وطمعها فيه ".
2- ومن الآثار: أن في عدم القناعة، والسخط لما قسمه الله تعرضٌ لسخط الله عز وجل: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط " (رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني).
3- ومن الآثار: ما جاء من الوعيد الشديد لمن يسأل أموال الناس تكثرا لعدم قناعته بما قدره الله له: ففي الحديث : " من سأل الناس أموالهم تكثرا، فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر " (رواه مسلم). وقوله: (تكثرا)، أي ليتكثر بها.
4- ويتجلى الأثر السيء لفقدان هذا الخلق فيما خافه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته من أن يهلكوا كما هلك من قبلهم، حيث قال: " والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم " (رواه البخاري ومسلم).
5- ومن الآثار: أن ترك
القناعة يدفع المرء لأكل الحرام : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لقبيصة رضي الله عنه بعد أن عدد له الحالات التي يجوز فيها سؤال الناس شيئا من الدنيا: " فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا " (رواه مسلم).
قال ابن الأثير في النهاية: " والسحت: الحرام الذي لا يحل كسبه، لأنه يسحت البركة: أي يذهبها "
الوسائل المعينة على تحصيل
القناعة من خلال
السنة النبوية:
رغم أن الحرص على الدنيا والاستكثار منها شيء راسخ في نفوس بني آدم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب " (رواه البخاري ومسلم)، إلا أن
السنة النبوية جاءت بتوجيهات وإرشادات تعين المرء على التحلي بهذا الخلق الفضيل وتحصيله، فمن ذلك:
1- أن ينظر المرء في أمور الدنيا لمن هو دونه؛ ليرى فضل الله عليه فيقنع به ولا يزدريه، ففي الحديث : " انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " (رواه مسلم)، وفي الحديث الآخر: " إذا رأى أحدكم من فوقه في المال والحسب، فلينظر إلى من هو دونه في المال والحسب " (رواه ابن حبان في صحيحه وصححه الألباني).
2- دعاء الإنسان ربه أن يرزقه
القناعة ويجنبه الشح والطمع: فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، وعذاب، القبر اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها " (رواه مسلم).
3- أن يسعى الإنسان للتكسب بما يغنيه عن التطلع لما عند الآخرين: ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا، فيسأله أعطاه أو منعه " (رواه البخاري).
4- التأمل في الفضائل التي ينالها من اتصف بالقناعة، والرذائل والعواقب الوخيمة التي يقع فيها من فقد القناعة، بما يقوي في نفسه الدافع لمجاهدة نفسه للتحلي بهذا الخلق الحميد.
أمثلة في
القناعة من حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم:
لقد كانت حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حافلة بالشواهد والتطبيقات العملية لخلق القناعة، ولقد كان عليه الصلاة والسلام - رغم تقديم الصحابة رضي الله عنهم نفسه على أنفسهم فضلا عن أموالهم، ورغم كون أموال الدولة المسلمة تحت تصرفه - كان معرضا عن الدنيا راغبا فيما عند الله، يرى حاله مع الدنيا كالمسافر الذي استظل تحت ظل شجرة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء، فقال: " ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها " (رواه الترمذي وحسنه الألباني)،
ومن هذه الأمثلة:
1- قناعته صلى الله عليه وسلم في مأكله : فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: " ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة، من طعام بر ثلاث ليال تِباعا، حتى قُبِض " (رواه البخاري ومسلم).
وعنها أيضا أنها قالت : " ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر " (رواه البخاري).
وعنها أيضا رضي الله عنها أنها قالت لعروة: " ابنَ أختي : إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت يا خالة: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا " (رواه البخاري ومسلم).
والمنائح: قال ابن حجر في الفتح: " جمع منيحة، وأصلها عطية الناقة أو الشاة ".
2- قناعته صلى الله عليه وسلم في مسكنه : فقد قال الحسن البصري رحمه الله : " كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي " (رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني).
وعن داود بن قيس قال: " رأيت الحجرات من جريد النخل مغشيا من خارج بمسوح الشعر " (رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني).
قال في مرقاة المفاتيح: " المسوح: جمع المِسح بالكسر، وهو اللباس الخشن ".
3- قناعته صلى الله عليه وسلم في أثاثه : وقد سبق فيه حديث ابن مسعود رضي الله عنه في نومه صلى الله عليه وسلم على الحصير.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: " كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم، وحشوه من ليف " (رواه البخاري).
وعن أنس- رضي الله عنه- قال: " لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات " (رواه البخاري).
والخوان: قال ابن الأثير في النهاية: " هو ما يوضع عليه الطعام عند الأكل ".
4- حرصه صلى الله عليه وسلم على الإنفاق والصدقة : فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " لو كان لي مثل أحد ذهبا ما يسرّني أن لا يمرّ عليّ ثلاث وعندي منه شيء، إلّا شيء أرصده لدين" (رواه البخاري ومسلم).