حين يتباعد الناس عن عصور الفصاحة، وتتوالى القرون تِلْوَ القرون، تستحكم العُجْمة على الألسِنة، ويتحتم حينها بيانُ الغريب من ألفاظ الكتاب والسنة، التي لم يَأْلَفِ المتأخرون استعمالها رغم أنها كانت مستعملةً في العهود المتقدمة، ولذلك برز ما يسمى بـ "علم
غريب الحديث" كفرع من فروع علوم
الحديث الكثيرةِ المختصةِ بعلم الدراية، ليبحث في الألفاظ غريبةِ المعنى الواردةِ في دواوين السنة ومصنفاتها.
تعريف علم
غريب الحديث:
عرفه ابن الصلاح في "مقدمة علوم الحديث" بأنه: عبارة عمَّا وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة البعيدة من الفهم لقلة استعمالها، وعرّفه السخاوي بأنه: "ما يخفى معناه من المتون لقلة استعماله ودورانه، بحيث يبعد فهمه، ولا يظهر إلا بالتفتيش فى كتب اللغة.
المصنفات في علم
غريب الحديث:
وقد صنفت فيه مصنفات كثيرة، توسعت شيئا فشيئا، بدأت بأوراق أثرت عن أبي عبيدة مَعْمَرُ بن المثنى ت210هـ، ولكن لم تصل إلينا، بل إن أول كتاب وصلنا في
غريب الحديث هو كتاب "غريب الحديث" لأبي عبيد القاسم بن سلام ت224هـ ثم كتاب "غريب الحديث" لابن قتيبة ت276هـ، ثم
غريب الحديث للإمام أبي إسحاق الحربي ت285هـ، ثم كتاب "غريب الحديث" للإمام أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي ت388هـ، وفيه تعقبات على من سبقه ووقوف على بعض الاستدراكات، فقد قال في مقدمته: "ثم إنَّه لمَّا كَثُر نظري في الحديث، وطالت مجالستي أهلَه، وجدت ألفاظاً غريبة، لا أصل لها في كتابَيْ أبي عبيد وابن قتيبة، ولم أزَلْ أتَتَبَّعُ مظانَّها وألتقطُ آحادها، وأضمُّ نشرها، حتى اجتمع منها ما أحبَّ اللهُ أن يوفق له، ونحوتُ نَحْوَهما في الوضع والترتيب".
ثم أُلِّفَتْ كتبٌ بعد ذلك، كان من أواخرها "النهاية في
غريب الحديث" لأبي السعادات ابن الأثير ت606هـ، وقد جاء كتابه وافر المادة، ميسور النوال لمن يبحث فيه، فقد رتبه على الحروف الهجائية فبدأ بالهمزة ثم يجرد الكلمة إلى أصلها فيقول مثلا: "أبَبَ... ثم أبَدَ..." وهكذا، وله مقدمة وافية ذكر فيها المصنفات التي سبقته، مع بيان الفروق والمميزات بينها، وبيَّن فيها منهجه وأسلوب تأليفه.
ثمت مؤلفاتٍ كثيرة غيرَ ما ذكر، بعضها أخذ منحى الاختصار والتهذيب، وبعضها غلب عليه طابع الاستدراك والتعقب على من سبقه، كالحسن بن عبد الله الأصبهاني المعروف بـ"لُغْذَة" في كتابه "الرد على أبي عبيد في
غريب الحديث"، وبعضها اتسم بالاستطراد والبعد عن نقطة البحث في الغريب إلى دراسة الأسانيد، وربما جر ذلك إلى
الحديث عن الأحكام وفقه الحديث، ككتاب السَّرَقُسْطي القاسم بن ثابت ت302هــ، واسمه "الدلائل في
غريب الحديث"، ومنها ما اختص بغريب مصنف من المصنفات كـ "غريب الموطأ" لـأصبغ بن الفرج ت275هـ، و"غريب المسند" لـغلام ثعلب ت345هـ، و"غريب الصحيحين" لابن أبي نصر الحميدي ت488هـ.
طبيعة علم
غريب الحديث:
ويشير أبو عبيد في كلام له عن طبيعة هذا العلم واتساع آفاقه، وملخص ما قال: أن سعة هذا العلم وعدم الإحاطة به راجع إلى كثرة طرق الأحاديث وخضوعها للرواية بالمعنى، فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول القول فيسمعه منه قبائل شتى على اختلاف لهجاتهم واستعمالاتهم، فربما حفظ أحدهم المضمون منه عليه الصلاة والسلام، ثم عبر عنه بألفاظه المستعملة في قبيلته وما اشتهر في زمانه، ولأجل هذا قال أبو عبيد: "أعيانا أن نعرف -أو نحصي- غريبَ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".