يرى كثيرٌ من الباحثين أنَّ علوم اللّغة العربيّة وُجِدت لخدمة القرآن الكريم، والسُّنّة النّبويّة المُطهّرة، ولهذا نجد العلماء - قديمًا وحديثًا - قد عمدوا إلى ربط دراساتهم اللُّغويّة بكتاب الله الخالد، وبكلام النّبيّ صلّوات ربي وسلامه عليه.
ولئن كانت دراساتهم القرآنيّة النَّحْويّة - الّتي تزخر بها المكتبات - تبدو فيها جهودهم واضحة جليّة؛ فإنَّ الأمر ليس كذلك فيما يتعلّق بالمباحث الحديثيّة اللُّغويّة، وإن كانت هناك جهود مُبعثرة في مصنّفات المتأخّرين، لا سيّما في مجال الاحتجاج النَّحْويّ
بالحديث النّبويّ، وهو مبحث قديم متجدّد تناوله الباحثون عبر قرونٍ بالدّراسة، والمناقشة، وكثُرت فيه الجهود البحثية.
وقبل بيان مذاهب العلماء في هذا المبحث، تجدر الإشارة إلى أمرين لا يغيبان عن عين الباحث في هذا الموضوع؛ وهما:
1- قلَّة الدّراسات التي ربطت بين البحوث اللّغويّة وحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مقارنة بالدّراسات القرآنيّة اللّغويّة.
2- كثيرٌ من النّحويين المتأخّرين الّذين استشهدوا
بالحديث النّبويّ في مؤلّفاتهم، جمعوا بين ما يصحّ عن النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام وبين الضّعيف والموضوع الذي لا تجوز نسبته إليه.
أول من تطرّق لهذه القضية
ظلّ
النُّحاة الأوائل من واضعي علم النَّحو والمتأخّرين عنهم صامتين عن الخوض في حكم الاحتجاج
بالحديث النبوي الشريف، حتى جاء ابن الضائع الإشبيلي، وتلميذه أبو حيّان الأندلسيّ، اللذان لفتا انتباه العلماء من بعدهما.
وإذا كان علماء اللُّغة العربيّة قد جعلوا القرآن الكريم، وكلام العرب حُجَّة في قواعدهم النَّحْويّة، والصَّرفيّة، والبلاغيَّة، فإنَّ كثيرًا من اللّغويين - القدامى والمُحْدَثين - يرون أنّ حديث الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم هو الأصل الثّاني بعد القرآن الكريم، فليس هناك أحدٌ أفصح قولًا، وأبين كلامًا، وأعلى بلاغة من النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، فقد وصف الجاحظ كلام الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم فقال: "هو الكلام الّذي قلَّ عدد حروفه، وكَثُرَ عدد معانيه، وَجَلَّ عن الصِّنعة، وَنُزِّهَ عن التّكلّف، فكيف وقد عاب التَّشديق، وجانب أهل التّقعيد، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر...، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعصمة، وَشُيِّدَ بالتّأييد، وَيُسِّرَ بالتّوفيق، ثمّ لم يسمع الناسُ كلامًا قطُّ أعمّ نفعًا، ولا أَقْصَدَ لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أَكْرَم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مَخْرَجًا، ولا أفصح معنى، ولا أبين عن فحواه من كلامه عليه الصّلاة والسلام".
مذاهبهم في الاحتجاج بالحديث
إنَّ الباحث الّذي يسبر أغوار قضيّة
احتجاج النُّحاة بالحديث الشّريف، يجد أنّ علماء العربيّة قد انقسموا في مسألة الاحتجاج
بالحديث على ثلاثة مذاهب؛ هي:
الأول: مذهب المانعين مطلقًا: وعلى رأسهم أبو الحسن بن الضائع الإشبيلي، وتلميذه أبو حيان الأندلسيّ - على خلاف بين الباحثين المتأخّرين -؛ وذلك لأنَّ النّحاة الأوائل من المِصْرَين "البصرة والكوفة" لم يحتجّوا بشيء منه، وأنّ الرّواة جوّزوا النّقل بالمعنى، وأنَّ كثيرًا من رواة الحديث كانوا غير عرب بالطبع، فوقع اللّحن في نقلهم.
الثاني: مذهب المجوزين مطلقًا: وعلى رأسهم ابن مالك، ورضيّ الدّين الإستراباذي، وابن هشام الأنصاريّ، والبدر الدّمامينيّ، والأشمونيّ، والبغداديّ، وغيرهم كثير.
الثالث: مذهب المتوسّطين: اتّخذ أصحاب هذا المذهب لأنفسهم موقفًا وسطًا بين المانعين والمُجوّزين، وقد تزعَّم هذا المذهب الإمام أبو إسحاق الشّاطبيّ، الّذي قسَّم الأحاديث الشّريفة على قسمين: قسم يعتني ناقله بمعناه من دون لفظه، فهذا لم يقع به استشهاد من أهل اللّسان، وقسم عُرِفَ اعتناء ناقله بلفظه لمقصود خاص؛ كالأحاديث الّتي قُصِدَ بها بيان فصاحته صلّى الله عليه وسلم، مثل: كتابه لهمدان، وكتابه لوائل بن حُجر، فهذا يصحُّ الاستشهاد به في أحكام اللّسان العربي، وهكذا يفرّق الشّاطبيّ بين ما اعتنى الرّواة بألفاظه وما رُوي بالمعنى، فهو لا يطرح الأحاديث جملة، كما لا يقبلها جملة، بل يفرّق بينها.
وقد استثمر رأيَ الشّاطبيّ هذا من الباحثين الشيخ محمّد الخضر حسين بعد جولات له مع المانعين والمُجوّزين، وارتأى أنْ يُستشهد بستة أنواع من الأحاديث، ويمتنع نوعٌ، ويُختلف في نوعين، ثم قرَّر مَجْمَع اللَّغة العربيَّة بالقاهرة - بعد مناقشته للمسألة وإفادته ممّا قدّمه الشّيخ محمّد الخضر حسين - جواز الاحتجاج ببعض الأحاديث في أحوال خاصّة؛ وهي:
1- لا يُحتجّ في العربيَّة بحديث لا يوجد في الكتب المدوَّنة في الصَّدر الأوّل، كالكتب الصّحاح السّتّة فما قبلها.
2- يُحتجُّ
بالحديث المدوّن في هذه الكتب الآنفة الذّكر على الوجه الآتي:
أ- الأحاديث المتواتِرة المشهورة.
ب- الأحاديث الّتي تُستعمل ألفاظها في العبادات.
ج- الأحاديث الّتي تعدُّ من جوامع الكلم.
د- كتب النّبيّ صلّى الله عليه وسلم.
هـ- الأحاديث المرويّة لبيان أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يُخاطب كلّ قوم بلغتهم.
و- الأحاديث الّتي عُرف من حال رواتها أنّهم لا يُجيزون رواية الحديث بالمعنى، مثل: القاسم بن محمّد، ورجاء بن حيوة، وابن سيرين.
ز- الأحاديث المرويّة من طرق متعدِّدة وألفاظها واحدة.
وكان لهذا القرار صداه، فقد تتابعت جهود المحدثين على تأييد الاحتجاج
بالحديث النّبويّ، وجعله مصدرًا من مصادر الاستشهاد، وأساسًا واجب الاعتماد عليه في الدّراسات اللُّغوية والنّحْوية - على قلّتها - كما أشرتُ سابقا.
هل رفض النحاة القدامى الاحتجاج
بالحديث حقًّا؟
يرى بعض الباحثين المتأخّرين أنَّ مَن نسب إلى الأقدمين رفض الاستشهاد
بالحديث كان واهمًا، كما أنّهم - أعني: الباحثين المتأخّرين - يحمّلون ابن الضّائع وأبا حيّان تبعة شيوع هذه القضيّة الخاطئة، فهما أوّل مَن روّج لها ونادى بها، وعنهما أخذها من جاؤوا بعدهما، يعيدون الكلام نفسه ويكررّونه من دون تمحيص.
وممّن استشهد
بالحديث النبوي من النَّحاة: أبو عمرو بن العلاء، والخليل، وسيبويه، والفرّاء، والمبرد، والزّجاجيّ، وأبو عليّ الفارسيّ، وابن جنيّ، والزّمخشريّ، وأبو البركات الأنباريّ، وغيرهم كثير، بل إنَّ ابن الضائع وأبا حيان استشهدا
بالحديث النبوي الشّريف في كتبهما؛ قال ابن الطّيب الفاسيّ: "بل رأيت الاستشهاد
بالحديث في كلام أبي حيّان نفسه مرّات، ولا سيّما في مسائل الصّرف".
وذهب إلى هذا الرَّأي كذلك: الباحثة خديجة الحديثيّ؛ إذ قالت: "وعلى هذا، فإنّني أستطيع أنْ أخالف الباحثين جميعًا - قدماء ومُحْدَثين - فيما ذهبوا إليه من أنَّ أبا حيّان كان يمنع الاحتجاج
بالحديث مطلقًا؛ لأنّه قد ثبت لي أنّه لا يردّ على ابن مالك ولا على غيره ممّن احتجّوا
بالحديث إنْ كان الحديث ممّا صحَّ عنده وقبِلَه...، وقد يحتج هو بأحاديث يبني عليها آراء أو استعمالات لم يسبق أنْ قال بها أحدٌ قبله".
أمّا الشّبهات والتّساؤلات الّتي ذكرها بعض
النُّحاة - قديمًا وحديثًا - حول قضية الاحتجاج
بالحديث النّبويّ في المسائل النَّحْويّة، فسيكون لها موضوع مستقل؛ نظرًا لأهميّتها، وضرورة بسط الكلام حولها.