وجد الباحثون المتخصّصون الّذين قاموا بتحليل
الأحاديث النّبويّة الشّريفة عددًا من الظّواهر اللُّغويّة الّتي تسترعي الانتباه، وتدعو اللُّغويين إلى دراستها بشكل مستفيض؛ ومن ذلك: أنّهم وجدوا - بعد تحليل جملة الحديث الشّريف، واستخراج أنماطها، وتراكيبها اللُّغويّة - أنَّ كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سار وَفْق القواعد الّتي استخرجها النُّحاة من النّصوص اللُّغويّة الفصيحة، بل قالوا: "إنّ القواعد اللُّغويّة لم تُخالف ما اشتمل عليه الحديث النّبويّ الشّريف من قواعد، وأصول في بنائه اللّغويّ".
ووجدوا أنّ كلام النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام مثَّلَ كلَّ أنواع الجُمل، وأنماط التّراكيب اللُّغويّة الّتي تحدّث عنها النّحاة، وأنَّ الباحثين لو أرادوا أن يقابلوا بين أبواب النّحْو العربيّ في أُمّهات كتب النّحو ومصادره الكبرى، وأنماط الجُملة في الحديث الشّريف، لوجدوا - غالبًا - أنَّ كلّ أبواب النّحو لها شواهد في الحديث النّبويّ.
مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ الظّاهرة النّحْويّة الواحدة لها مئات الشّواهد في كتب النّحاة بما لا يوجد مثلها في الحديث الشّريف؛ ذلك أنّ النّحْو العربيّ يستمدّ شواهده من القرآن الكريم، ومن شِعْر العرب ونثرهم على امتداد عصورهم، بينما الحديث الشّريف يصدر من متكلّم واحد - صلّى الله عليه وسلّم - يُرسل الكلام دقيقًا مفيدًا دالًا موجزًا بليغًا لِيُبلّغ رسالة ربّه عزّ وجلّ، ولِيعلّم أُمّته بالواضح من القول، والشّائع من أسلوب البيان.
ولهذا فقد رأى بعض الباحثين المعاصرين أنّ لغة الحديث النّبويّ الشّريف تُمثّلُ صورة واضحة دقيقة للنّحْو الوظيفيّ الّذي يجب أنْ يُعلَّمَ للطّلاب، وألّا يُقدَّمَ لهم غيرُه؛ لأنّ فيه الأنماط الأساسيّة لكلّ حُكْم نحْويّ، والحقائق الكبرى، والأمثلة الواقعيّة المستمدّة من أحوال النَّاس، والمستخرَجة من حياتهم اليوميّة.
ومن الملحوظات الّتي استوقفت الباحثين اللُّغويين الّذين تناولوا الحديث النّبويّ على مائدة الدَّرس اللُّغويّ:
استعمال (أوّل) اسمًا للتفضيل:
أورد (لسان العرب) كلمة "أوّل" في مادة (وأل)، وليس في مادّة (أول) - كما قد يتبادر إلى الذّهن -، بل إنّ كثيرًا من اللّغويين ظنّ أنّها من هذه المادّة، قال في اللّسان: "فمنهم من يقول: (أوّل) تأسيس بنائه من همزة وواو ولام، ومنهم من يقول: تأسيسه من (واين) بعدهما لام، ولكلّ حُجّة".
وقال ابن برّيّ: "إنّها أفعل من (وَوَلَ)، فهي من باب (دودن)، و(كوكب)، ممّا جاء فاؤه وعينه من موضع واحد"، قال: "وهذا مذهب سيبويه وأصحابه".
وفي (الصّحاح): "والأوّل نقيض الآخر، وأصله (أَوْأَل) على أفعل مهموز الأوسط، قُلبت الهمزة واوًا وأُدغم، يدلّ على ذلك قولهم: هذا أوّل منك. والجمع الأوائل، والأوالي أيضًا على القلب".
وتأتي (أوّل) صفة، وتأتي اسمًا، وتُستخدم منكّرة ومعرفة صفةً لما قبلها من الأسماء عادة.
لكنّ الباحثين اللُّغويين وجدوا لها استعمالًا فريدًا في الحديث الشّريف؛ وهو استعمالها بمعنى (أفعل التّفضيل).
وهي في هذا الاستعمال تعني: الأفضل في الأوّليّة؛ أي: (الأَوْأَلُ)، على ما هو اشتقاق الكلمة في الأساس، قبل أن تُقلبَ الهمزةُ - وهي عين الفعل - واوًا، ثمّ تُدغمُ الواوُ في الواو.
ومن شواهد ذلك في حديث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله! مَن أسعدُ النّاس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لقد ظننتُ يا أبا هريرة أنْ لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوَّلَ منك، لِمَا رأيتُ مِن حرصك على الحديث، أسعدُ النّاس بشفاعتي يوم القيامة مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، أو نفسه) رواه مسلم.
ومن ذلك أيضا: ما رُوي عن عليّ بن يحيى بن خلاّد الزّرقيّ عن أبيه عن رفاعة بن رافع الزّرقيّ، قال: كنّا يومًا نصلّي وراء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا رفع رأسه من الرّكعة قال: (سَمِع الله لمن حمده)، قال رجل وراءه: "ربّنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه"، فلمّا انصرف، قال: (مَن المتكلّم؟) قال: أنا، قال: (لقد رأيتُ بِضعةً وثلاثين مَلَكًا يبتدرونها أيّهم يكتبها أوّلُ) رواه مسلم.
في الحديث الأوّل يُلاحظ أنّ كلمة (أوّل) جاءت منصوبة، وفي الثّاني جاءت مرفوعة، وهذا وَفْق ما قال به النُّحاةُ؛ قال سيبويه: "وأمّا قولهم: أبدأُ به أوّلُ، وابدأْ بها أوّلُ، فإنّما تريد أيضًا أوّل من كذا، ولكنّ الحذفَ جائزٌ جيّد؛ كما نقولُ: أنت أفضلُ، وأنت تريد مِن غيرك، إلا أنّ الحذفَ لَزِمَ صفة عامٍّ لكثرة استعمالهم إيّاه حتّى استغنوا عنه، ومثل هذا في الكلام كثيرٌ، والحذفُ يُستعملُ في قولهم: ابدأ به أوّلُ أكثر، وقد يجوز أن يظهروه، إلا أنّهم إذا أظهروه لم يكن إلا الفتح".
وسوف نأتي على ذكر بقية الظواهر اللغوية في مقالات لاحقة ضمن هذه السلسلة الماتعة بإذن الله تعالى، وبالله التوفيق.