لم يكن غريبًا على علماء اللُّغة الّذين قاموا بتحليل
الأحاديث النّبويّة الشّريفة على مائدة البحث اللُّغويّ أن يجدوا كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اشتمل على كلّ أنواع التّراكيب اللُّغويّة، والجُمل الّتي نصَّ عليها النُّحاة، ولم يُخالف قواعد النَّحْو في بنائه اللُّغويّ بصورة شاملة دقيقة، ولهذا قال الجاحظ: "ولم يسمع النّاسُ بكلام قطّ أعمّ نفعًا، ولا أقصد لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح معنى، ولا أبين فحوى، من كلامه صلّى الله عليه وسلّم".
لكنّ الباحثين اللُّغويين الّذين درسوا الحديث الشّريف - على مائدة اللُّغة - وجدوا عددًا من الظّواهر اللُّغويّة في نحوه قد استرعت انتباههم؛ ومن ذلك:
أن يكون (المبتدأ) معرفة، و(الخبر) كذلك
فالدّارسون اللُّغويّون وجدوا أنَّ هذا النّمط قد ورد في "الصّحيحين" - على سبيل المثال - في تسعة فروع من فروع التّركيب اللُّغويّ ضمن إطار (المبتدأ معرفة، والخبر معرفة)، ووجدوا أنّ مجموع
الأحاديث فيها قد بلغ ثمانية وتسعين حديثًا.
وقد تقرّر عند علماء النّحو أن أصل الكلام أن يكون المبتدأ معرفة، والخبر نكرة، أمّا إذا كانا معرفتين فقد ذهب بعض النُّحاة إلى الحُكْم بأنَّ المُقدَّم منهما هو المبتدأ، قال ابن يعيش: "وقد يقع المبتدأ والخبر معرفتين معًا؛ كقولك: زيدٌ المنطلق، والله إلهنا، ومحمّد نبيُّنا، ولا يجوز تقديم الخبر هنا، بل أيّهما قدَّمتَ فهو المبتدأ".
وأشار النّحاة إلى أنّ الفائدة - أحيانًا - تكون في اجتماع المبتدأ والخبر المعرفتين، وقد كان ابن هشام دقيقًا عندما قرَّر أنّ المبتدأ ما كان أعرف، وهذا ما لاحظه الباحثون اللُّغويّون؛ إذ لاحظوا أنّ المبتدأ - في الحديث الشّريف - هو ما يحتاج إلى خبر يبيّن معناه، وهو دائمًا معلومٌ معروفٌ لدى المخاطَب.
ووجدوا أنَّ هذه مَيْزة من مَيْزات الحديث النّبويّ، وخصّيصة من خصائص الجملة الاسميّة فيه، فالمبتدأ حاضرٌ في ذهن المخاطَب، فهو إمّا يكون مسؤولًا عنه في سياق الحديث، وإمّا أن يكون معلومًا من قرائن الحال، وينتظر المخاطب أو السامع الإخبار عنه، كما في الحديث الّذي أخرجه البخاريّ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (إيّاكم والدّخول على النّساء)، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت)، فالحمو هنا هو المبتدأ - كما قال أهل اللُّغة - لأنّه موضع الكلام، وهو الأعرف كما يقول ابن هشام.
ثمّ وجد الباحثون اللّغويّون أنّ هذا النّمط - أن يكون المبتدأ معرفة، والخبر معرفة - ينقسم إلى فروع؛ وهي:
أوّلًا: المبتدأ معرفة (ضمير)، والخبر معرفة:
وردتْ في هذا الفرع ضمائر: (أنا، أنت، أنتم، نحن، هما، هو، هي) في عدد من
الأحاديث النّبويّة؛ منها: (لي خمسة أسماء: أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الّذي يمحو الله بي الكُفر، وأنا الحاشر الّذي يُحشر النّاس على قدمي، وأنا العاقب) متّفق عليه، وأيضا: (فقال: ما اسمك؟) قال: حَزْنٌ. قال: (أنت سَهْلٌ) رواه البخاريّ، وأيضا: (أنتم شهداء الله في الأرض) متّفق عليه، وأيضا: (نحن الآخرون السّابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا..) متّفق عليه، وأيضا: (هما ريحانتاي من الدّنيا) - يقصد الحسن والحسين رضي الله عنهما - رواه البخاريّ، وأيضا: (هم الأخسرون وربّ الكعبة) متّفق عليه، وأيضا: (لا، بل هو سواد اللّيل، وبياض النّهار) رواه البخاريّ، وأيضا: (هي ابنة أخي من الرَّضاعة) - يقصد ابنة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهم وأرضاهم - متّفق عليه.
ثانيًا: المبتدأ معرفة (عَلَم)، والخبر معرفة:
وجد اللّغويّون أنّ هذا الفرع قد وردتْ فيه أحاديث قليلة؛ منها: (قريشٌ، والأنصارُ، وجُهينةُ، وأسلمُ، وأشجعُ، وغِفارُ مواليَّ) متّفق عليه.
ثالثًا: المبتدأ معرفة (اسم الإشارة)، والخبر معرفة:
وردت أسماء الإشارة (هذا، وهذه، وذلك، وتلك) كمبتدأ في الحديث الشّريف؛ ومنها: (هذا جبريلُ يعلّم النّاسَ دينَهم) متّفق عليه، وأيضا: (وهذه الخطوط الصّغار الأغراض، فإنْ أخطأه هذا نَهَشَه هذا، وإنْ أخطأه هذا نهشه هذا) رواه البخاريّ، وأيضا: (فذلك مثل الصّلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا) متّفق عليه، وأيضا: (تلك الملائكة دَنَتْ لصوتك) رواه البخاريّ.
رابعًا: المبتدأ معرفة (اسم موصول)، والخبر معرفة:
جاء ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين مِنْكَبَيْ الكافر مسيرةُ ثلاثة أيّام للرّاكب المُسرع) متّفق عليه.
خامسًا: المبتدأ معرفة (معرّف بأل)، والخبر معرفة:
ومن أمثلة ذلك: (المسلم مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجرُ مَن هَجَرَ ما نهى اللهُ عنه) متّفق عليه، وأيضا: (الكبائرُ: الإشراكُ بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النّفس، واليمين الغَموس) متّفق عليه.
سادسًا: المبتدأ معرفة (معرّف بأل)، والخبر مصدر مُؤّول:
ومن أمثلة ذلك: (الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وبلقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث) متّفق عليه، وأيضا: (الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصّلاة، وتؤدّي الزّكاة المفروضة، وتصوم رمضان) متّفق عليه.
سابعًا: المبتدأ معرفة (بالإضافة)، والخبر معرفة:
ومن أمثلة ذلك: (آيةُ الإيمان حُبُّ الأنصار، وآيةُ النّفاق بُغضُ الأنصار) متّفق عليه، وأيضا: (..فزِنا العين النّظر، وزنا اللّسان النّطق) متّفق عليه.
ثامنًا: المبتدأ معرفة (اسم تفضيل مضاف)، والخبر معرفة:
ومن أمثلة ذلك: (أسعدُ النّاس بشفاعتي يوم القيامة مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، أو من نفسه) رواه البخاريّ، وأيضا: (خيرُ الصّدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول) متّفق عليه، وأيضا: (خيركم مَن تعلّم القرآن وعلّمه) متّفق عليه.
تاسعًا: المبتدأ معرفة (بالإضافة)، والخبر مصدر مؤّول: ومثاله: (سيّد الاستغفار أن تقول: اللُّهمَّ أنت ربّي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي، اغفر لي فإنّه لا يغفر الذّنوب إلا أنت) رواه البخاريّ.