بعد أن ذكرنا اثنين من
أنماط التّوكيد، وهما: التّوكيد بوساطة تَكرار الجملة الفعليّة نفسها، والتَّوكيد بوساطة المصدر النَّائب عن المفعول المطلق، نأتي إلى تفصيل القول في النَّمط الثّالث: وهو التّوكيد بالقَصْر.
حيث وردتْ الجُملة المؤكّدة بالقصر في صور مختلفة، فمنها القصر على الفعل أو الفاعل أو المفعول، زيادة على اختلاف أدوات القصر نفسها، وقد وردت في اثنين وثمانين موضعًا في متن الأحاديث النّبويّة الواردة في (صحيح البخاريّ)، وجاءت على النّحو التّالي:
التّركيب الأوّل: القصر بـ(النفي، وإلا): حيث ورد هذا التركيب في أربعة وأربعين موضعًا، على وَفْق ما يأتي:
أوّلًا: الجُملة ذات الفعل الماضي المبني التّام المبني للمعلوم:
أ. قصر الفاعل على المفعول (ما، وإلاّ): الجُملة ذات الفعل المتعدّي إلى مفعولين بوساطة:
- الجملة ذات الفعل المتعدّي إلى مفعولين الأوّل بنفسه، والثّاني بوساطة حرف الجّر: ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (فوالله ما علمتُ من أهلي إلا خيرًا).
في المثال السّابق جملة فعلية فعلها (علم)، وفاعلها (التّاء) الضّمير المتّصل، ومفعولها الأوّل (خيرًا) ومفعولها الثّاني (من أهلي)، وقد أُكّدت بقصر الفاعل على المفعول الأوّل منها، وقد وردت هذه الجملة في (موضعين).
- الجملة ذات الفعل المتعدّي إلى مفعولين الأوّل بوساطة الهمزة، والثّاني بوساطة حرف الجرّ: ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (واللهِ ما أرْسَلْتُم لي إلاّ شيطانًا).
في المثال السّابق جملة فعلها (أرسل)، وفاعلها (التّاء) الضّمير المتّصل، والمفعول الأوّل (شيطانًا) والمفعول الثّاني (لي)، وقد أكّد مضمون الجملة بوساطة قصر الفاعل على المفعول الأوّل، ولم ترد غير هذه الجملة في هذا الموضع.
ب. قصر الفعل على الفاعل (ما، وإلا):
ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (ما بقي في النار إلاّ مَنْ حَبَسَهُ القُرآن، وَوَجَبَ عليه الخُلًودُ).
الجملة الّتي مرّت فعلها (بقي) وفاعله (مَنْ) الموصولة، وقد أكّد مضمون الجملة بوساطة قصر الفعل على الفاعل، ولم ترد غير هذه الجملة في هذا الموضع.
ثانيًا: الجملة ذات الفعل الماضي التّام المبني للمجهول:
قصر الفعل على نائب الفاعل (ما، وإلا):
ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (ما أُنزلَ عليَّ فيها إلاّ هذه الآية).
فيما مرّ جملة فعلها (أُنزل) وهو مبني للمجهول والنّائب عن الفاعل (هذه) و(الآية) بدلٌ منه، وقد أكّدت الجملة بوساطة قصر الفعل على النائب عن الفعل، ولم ترد غيرها في هذا المضمار.
ثالثًا: الجملة ذات الفعل المضارع المبني للمعلوم:
أ. قصر الفعل على الفاعل: (لا، وإلا):
ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (وإنّ النارَ لا يُعَذِّبُ بها إلاّ اللهُ).
في المثال السّابق جملة فعلها (يُعِذّبُ) وفاعلها لفظ الجلالة (الله)، وقد أكّد مضمونها بوساطة قصر الفعل على الفاعل، وقد وردت في موضعين.
ب. قصر الفعل على الفاعل: (لم، وإلا):
ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (لم يَبق من النبوة الا المبشِّراتُ)، (لم يتكلّم في المهد إلاّ ثلاثة…).
فيما مرّ جملتان فعلاهما (يبق، يتكلّم)، وفاعلهما (المبشرات، ثلاثة)، وقد أكّد مضمون الجملتين بوساطة قصر الفعل على فاعله، وورد هذا النّمط في (أربعة) مواضع.
جـ. قصر الفاعل على المفعول:
1- الجملة ذات الفعل المضارع المتعدّي إلى مفعول واحد بنفسه (لا، وإلا) (لم، وإلا):
فأمثلة الأول في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (لا نقول إلاّ ما يرضي ربنا)، (لا يرحم الله من عبادِهِ إلا الرُّحَمَاء)، وأمثلة الثّاني: (ثم لم يجدوا إلا أن يَسْتَهموا عليه لاستهموا)، (لم يكذب إبراهيم إلاّ ثلاثًا…).
في المثالين الأوّلين جملتين تألّفت كلّ منهما من الفعل (نقول، يرحم)، والفاعل (الضّمير المستتر (نحن)، لفظ الجلالة (الله)، وقد أكّد مضمون الجملتين بوساطة قصر الفاعل على المفعول، ووردت هذه الجملة في أربعة مواضع، وأمّا الآخرَين ففيهما جملتان تألّفت كلّ منهما من الفعل (يجد، يكذب) والفاعل الضّمير المتّصل (الواو)، (إبراهيم)، وقد أكّد مضمونهما بوساطة قصر الفاعل على المفعول به، ولم ترد غير هاتين الجملتين في هذا الموضع.
2- الجملة ذات الفعل المتعدي إلى مفعول واحد بوساطة:
أ. الجملة ذات الفعل المتعدي بوساطة حرف الجرّ (لا، وإلا):
ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنّ دَاوُد عليه السلام كان لا يأكلُ إلاّ مِنْ عَمَلِ يده)، (الحياءُ لا يأتي إلاّ بخيرِ).
في الحديثين الشّريفين السّابقين جملتان فعليتان فعلاهما (يأكل، يأتي)، وفاعلهما (الضّمير المستتر) العائد على داود عليه السّلام، الضّمير المستتر (هو) العائد على (الحياء)، ومفعولاهما (من عمل يده، بخير)، وقد أكّد مضمون الجملتين بوساطة قصر فاعليهما على مفعوليهما، وورد هذا النّمط في (خمسة) مواضع.
ب. الجملة ذات الفعل المتعدّي بوساطة الهمزة (لا، وإلا):
ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (لا يُريدُ إلاّ الصلاةَ).
فيما مر جملة فعلها (يريد) وفاعلها ضمير مستتر في الفعل عائد على (الرّجل الّذي يخرج إلى الصّلاة) -كما في سياق الحديث-، ومفعوله (الصّلاة)، وقد أُكِّد مضمون الجملة بوساطة قصر الفاعل على المفعول، ولم يرد في هذا النّمط غيرها.
3- الجملة ذات الفعل المتعدّي إلى مفعولين بنفسه: (ما، وإلا):
ومِن أمثلة ذلك في حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (ما أراها إلا حابِسَتكم).
الجملة السّابقة فعلها (أرى) وفاعلها (الضّمير المستتر (أنا) العائد على النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، ومفعولها الأوّل (الهاء)، ومفعولها الثّاني الجملة الفعليّة (حابستكم)، وقد أكّد مضمون الجملة بوساطة قصر الفاعل على المفعول الثّاني، ولم ترد غيرها في هذا النّمط.