رحم الله سبحانه عباده المؤمنين، فرفع عنهم الجناح في ترك إتمام
الصلاة حال السفر، قال سبحانه: {وإذا ضربتم في الأرض
فليس عليكم جناح أن
تقصروا من
الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا} (النساء:101). وقد استدل العلماء بهذه الآية على مشروعية قصر
الصلاة للمسافر، وفي السطور التالية نتجه لبيان ما تضمنته هذه الآية من أحكام، وذلك من خلال المسائل التالية:
المسألة الأولى: قوله سبحانه: {وإذا ضربتم} الضرب: هو السفر والسعي في الأرض، طلباً لرزق، أو تحصيلاً لعلم، أو جهاداً لعدو، ونحو ذلك مما هو جائز، أو مطلوب شرعاً.
المسألة الثانية: علق الله سبحانه (القصر) على (الضرب) في الأرض، وذلك مطلق غير مقيد؛ فأخذ بإطلاقه أهل الظاهر، فجوزوا القصر، في كل سفر، طويلاً كان أو قصيراً، وقيده الجمهور من أهل العلم بالمعنى الذي أبيح له القصر، وهو المشقة الزائدة على مشقة الحضر. ثم اختلفوا؛ فذهب ابن مسعود، وعثمان، وغيرهما رضي الله تعالى عنهم إلى أن المسافة المبيحة للقصر هي ثلاثة أيام، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وذهب ابن عمر، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم إلى أنها يومان، وبه قال جمهور أهل العلم؛ ولأن المشقة المعتبرة توجد في ذلك غالباً.
قال ابن العربي: "وقد تلاعب قوم بالدين، فقالوا: إن من خرج من البلد إلى ظاهره قَصَر وأكل، وقائل هذا أعجمي، لا يعرف السفر عند العرب، أو مستخفٍّ بالدين...ولم يُذْكَر حدُّ السفر الذي يقع به القصر لا في القرآن، ولا في السنة، وإنما كان كذلك؛ لأنها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند العرب، الذين خاطبهم الله تعالى بالقرآن، فنحن نعلم قطعاً أن من برز عن الدُّور لبعض الأمور، أنه لا يكون مسافراً لغة ولا شرعاً، وإن مشى مسافراً ثلاثة أيام، فإنه مسافر قطعاً، كما أنا نحكم على أن من مشى يوماً وليلة كان مسافراً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها) متفق عليه، وهذا هو الصحيح؛ لأنه وسط بين الحالين، وعليه عوَّل مالك".
إذن، جمهور أهل العلم على أن القصر إنما شُرع تخفيفاً، وإنما يكون في السفر الطويل، الذي تلحق به المشقة غالباً، فراعى جمهور أهل العلم يوماً تاماً. وذهب الحنفية إلى أنه لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول عثمان، وابن مسعود، وحذيفة رضي الله عنهم أجمعين.
المسألة الثالثة: قوله عز وجل: {أن
تقصروا من الصلاة} اختلف الفقهاء في حكم (القصر) هل هو رخصة، أو عزيمة؟ فقال الشافعي: هو رخصة، واستدل بظاهر الآية، وبحديث يعلى بن أمية الآتي، وبقول عائشة رضي الله عنها: (كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم, أتم في السفر، وقَصَر) رواه الدار قطني. واستدل بأدلة أخرى.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه عزيمة، واستدلوا بما رواه الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (أول ما فُرضت
الصلاة ركعتين ركعتين، فزِيْدَ في صلاة الحضر، وأُقِرَّت صلاة السفر) متفق عليه. واستدلوا بأدلة أخرى. ومن القائلين بفرضية (القصر) في السفر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. وقال أبو بكر الأثرم: "قلت لأحمد بن حنبل: للرجل أن يصلي في السفر أربعاً؟ قال: لا، ما يعجبني، السُّنَّة ركعتان".
والمشهور من قول مالك والشافعية أن القصر سنة ليس برخصة، ولا فرضاً؛ لما فيه من الجمع بين الأدلة، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وذهب بعض المالكية إلى أن القصر والإتمام فرضان، فأيهما فعل، فقد فعل الواجب؛ كالواجب المخير.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: {إن خفتم} اختلف الفقهاء في شرط الخوف، هل جيء به للتعليق، أو للتغليب؟ فذهب بعض التابعين إلى أنه يجوز القصر في السفر في الخوف إلى ركعة، وأما ركعتا المسافر فليستا مقصورتين، بل هما أصل فريضة السفر، ويروى هذا القول عن جابر، وكعب، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وفعله حذيفة بطبرستان، وهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد، وإليه ذهب ابن حزم، ودافع عنه. ويدل له قول ابن عباس رضي الله عنهما: (فرض الله تعالى
الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة) رواه مسلم.
وذهب قوم إلى أنه شرط للتعليق بالحكم الذي بعده، روي عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: نزل قوله: {إن خفتم} بعد قوله: {أن
تقصروا من الصلاة} بسنة في غزوة بني أسد، حين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، قال بعضهم: هلا شددتم عليهم، وقد أمكنوكم من ظهورهم، فقالوا: بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأولادهم، فنزل: {إن خفتم} إلى قوله: {عذابا مهينا} (النساء:101-102).
وذهب الجمهور من الصحابة وغيرهم رضي الله عنهم إلى أن الشرط للتغليب، خرج مخرج الغالب، وأن المراد بالقصر التشطير؛ قال القرطبي: "خرج الكلام على الغالب؛ إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار"؛ فإن أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المواجَهين بالخطاب لا تنفك عن الخوف غالباً، وقد روى مسلم عن يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما قال الله تعالى: {أن
تقصروا من
الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقد أَمِن الناس، فقال عمر: عجبت من الذي عجبت منه، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته).
قال الشافعي: "القصر في غير الخوف ثابت بالسنة، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسنة، ومن صلى أربعاً فلا شيء عليه، ولا أحب لأحد أن يُتم في السفر رغبة عن السنة".
وقال القِنوجي: "ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن، ولكنه قد تقرر بالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قَصَر مع الأمن؛ فالقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم من القصر مع الأمن".
المسألة الخامسة: أجمع أهل العلم على جواز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، واختلفوا في غيرهما من الأمكنة؛ فجوزه الجمهور، ومنعه أبو حنيفة وأصحابه، واحتجوا بأن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: والذي لا إله غيره! ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة قط إلا في وقتهما، إلا صلاتين: جمع بين الظهر والعصر يوم عرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع (أي: مزدلفة)، وتمسكوا بدليل الإجماع على أنه لا يجوز الجمع في الحضر، واستمر الحكم في السفر.
المسألة السادسة: اتفق أهل العلم على أن
الصلاة تُقْصَر في سفر الجهاد، والحج، والعمرة، وما شابهها من صلة رحم، وإحياء نفس، وطلب العلم. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قوله: لا تُقْصرُ
الصلاة إلا في حج أو جهاد. وقال عطاء: لا تُقْصر إلا في سفر طاعة، وسبيل من سبل الخير. واختلفوا فيما سوى ذلك؛ فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح، كالتجارة، والسياحة، ونحوهما. وقال مالك: إن خرج للصيد لا لمعاشه، ولكن متنزهاً، أو خرج لمشاهدة بلدة متنزهاً ومتلذذاً لم يَقْصر. والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية، كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما.
واختلفت الرواية عن الإمام أحمد؛ فروي عنه القول بقول الجمهور، وروي عنه القول بأنه: لا يقصر إلا في حج أو عمرة. قال القرطبي: "والصحيح ما قاله الجمهور؛ لأن القصر إنما شُرع تخفيفاً عن المسافر للمشقات اللاحقة فيه، ومعونته على ما هو بصدده مما يجوز، وكل الأسفار في ذلك سواء".
وقال أبو حنيفة والثوري وأهل الظاهر: يكفي مطلق السفر، سواء كان مباحاً، أو محظوراً، حتى لو خرج لقطع الطريق، وإخافة السبيل؛ وحجتهم في ذلك أن القصر فَرْضٌ معيَّنٌ للسفر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (فرضت
الصلاة ركعتين ركعتين، فزيدت في الحضر، وأقرت في السفر) ولم يخصّص القرآن سفراً دون سفر، فكان مطلق السفر مبيحاً للقصر، حتى ولو كان سفر معصية.
قال ابن العربي: "وأما من قال إنه يقصر في سفر المعصية، فقد بينا في كتاب "التلخيص" فساده، فإن الله سبحانه جعل في كتابه القصر تخفيفاً، والتمام أصلاً، والرخص لا تجوز في سفر المعصية، كالمسح على الخفين".
المسألة السابعة: وجمهور أهل العلم على أن المسافر لا يَقْصُر حتى يخرج من مكان إقامته، وحينئذ هو ضارب في الأرض.
المسألة الثامنة: اختلف العلماء في مدة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتمَّ؛ فقال مالك والشافعي والطبري: إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتمَّ. وقال الحنفية: إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتم، وإن كان أقل قَصَر، وهو قول ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما، ولا مخالف لهما من الصحابة. وقال أحمد: إذا عزم المسافر مُقَام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قَصَر، وإن زاد على ذلك أتمَّ، وبه قال داود. وثمة قول يقول: إن المسافر يقصر أبداً، حتى يرجع إلى وطنه، أو ينزل وطناً له. وقد روي عن أنس رضي الله عنه أنه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصلاة.