من الآيات المتعلقة بموضوع الزواج قوله تعالى: {ولا تنكحوا
المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} (البقرة:221). هذه الآية تنهى المؤمنين عن الزواج من المشركين، وتصرح بأن العبد المؤمن خير عند الله من الحر المشرك؛ وذلك أن المشرك داع إلى الكفر المؤدي إلى النار. والآية تتضمن جملة من الأحكام، نقف على أهمها في المسائل التالية:
المسألة الأولى: لفظ (النكاح) حقيقة في العقد، كناية في الوطء، قال ابن عاشور: "و(النكاح) في كلام العرب حقيقة في العقد على المرأة؛ ولذلك يقولون: نكح فلان فلانة، ويقولون: نكحت فلانة فلاناً فهو حقيقة في العقد؛ لأن الكثرة من أمارات الحقيقة، وأما استعماله في الوطء فكناية". وقال أبو علي الفارسي: "فرقت العرب في الاستعمال فرقاً لطيفاً حتى لا يحصل الالتباس، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة: أرادوا أنه تزوجها وعقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته، لم يريدوا غير المجامعة؛ لأنه إذا ذكر امرأته أو زوجته فقد استغنى عن ذكر العقد، فلم تحتمل الكلمة غير المجامعة". وأجمع المفسرون على أن المراد من قوله سبحانه: {ولا تنكحوا} في هذه الآية، أي: لا تعقدوا عليهن عقد النكاح.
المسألة الثانية: مذهب جمهور المفسرين أن اسم (المشركة) لا يتناول إلا عبدة الأوثان؛ فـ (المشركة) عندهم من ليس لها دين سماوي، ومثلها المشرك. وثمة فريق من أهل العلم يرى أن اسم (المشرك) يطلق على كل كافر، فيدخل في هذا أهل الكتاب، واختار هذا القول الرازي، قال: "والأكثرون من العلماء على أن لفظ (المشرك) يندرج فيه الكفار من أهل الكتاب، وهو المختار"، وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما. ونسبة هذا القول لأكثر أهل العلم غير مُسَلَّم بها. وقد ردَّ ابن عاشور هذا المذهب، ووصفه بأنه "مسلك ضعيف جداً؛ لأن إدخال (أهل الكتاب) في معنى (المشركين) بعيد عن الاصطلاح الشرعي، ونزلت هذه الآية وأمثالها وهو معلوم فاش؛ ولأنه إذا تم في النصارى باطراد، فهو لا يتم في اليهود؛ لأن الذين قالوا: {عزير ابن الله} (التوبة:) إنما هم طائفة قليلة من اليهود".
المسألة الثالثة: الاتفاق حاصل بين المسلمين على حرمة زواج الرجل المسلم بالمرأة المجوسية، والتي لا تدين بكتاب سماوي، بيد أنهم اختلفوا -تأسيساً على الاختلاف في المراد بـ (المشركة)- في زواج المسلم بالمرأة الكتابية؛ فالأكثر على جواز
نكاح الكتابيات؛ عملاً بقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} (المائدة:5)، فاعتبروا هذه الآية مخصصة لعموم آية البقرة. وذهب فريق من أهل العلم إلى منع زواج المسلم بالمرأة الكتابية؛ عملاً بعموم آية البقرة، واعتبارها ناسخة لآية المائدة، قال ابن عاشور: "وقال شذوذ من العلماء بمنع تزوج المسلم الكتابية، وزعموا أن آية سورة المائدة نسختها آية سورة البقرة، ونقل ذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم"، وقد رد ابن عاشور دعوى النسخ من جهة أن آية المائدة متأخرة في النزول على آية البقرة، وقواعد النسخ تأبى أن ينسخ المتقدم نزولاً المتأخر.
وقد توسط فريق ثالث، فلم يقل بحرمة زواج المسلم بالمرأة الكتابية، بل قال بكراهية ذلك؛ قال الإمام أحمد: لا يعجبني، بمعنى أنه كره زواج المسلم بالمرأة الكتابية، وهو قول مالك في رواية ابن حبيب. وقد روي أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه تزوج بكتابية، فأراد عمر رضي الله عنه التفريق بينهما، فقال له حذيفة: أتزعم أنها حرام، فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. فهذا محصل قول أهل العلم في هذه المسألة.
المسألة الرابعة: أجمعت الأمة على أن المشرك لا يتزوج المسلمة إلا بعد أن يُسْلم؛ دل على ذلك قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا}، والمراد بـ (المشرك) هنا كل كافر لا يدين بدين الإسلام، فيشمل الوثني، والمجوسي، واليهودي، والنصراني، والمرتد عن الإسلام، فكل هؤلاء يحرم تزويجهم بالمسلمة، والعلة في ذلك أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. فللمسلم أن يتزوج باليهودية أو النصرانية، وليس لليهودي أو النصراني أن يتزوج بالمسلمة، وقد بين الباري جل وعلا السبب بقوله: {أولئك يدعون إلى النار} أي: يدعون إلى الكفر الذي هو سبب دخول نار جهنم؛ ولما كانت رابطة النكاح رابطة اتصال ومعاشرة نهى عن وقوعها مع من يدعون إلى النار؛ خشية أن تؤثر تلك الدعوة في النفس، فإن بين الزوجين مودة وإلفاً، يبعثان على إرضاء أحدهما الآخر؛ ولما كانت هذه الدعوة من المشركين شديدة؛ لأنهم لا يؤمنون بوحدانية الله، ولا يؤمنون برسله، كان البون بينهم وبين المسلمين في الدين بوناً شاسعاً، لا يجمعهم شيء يتفقون عليه، فلم يبح الله مخالطتهم بالتزوج من كلا الجانبين. والرجل له سلطة وولاية على المرأة، فربما أجبرها على ترك دينها، وحملها على أن تكفر بالإسلام، والأولاد يتبعون الأب، فإذا كان الأب نصرانيًّا أو يهوديًّا، رباهم على اليهودية أو النصرانية، فيصير الولد من أهل النار.
ومن ناحية أخرى، فإن المسلم يعظم موسى وعيسى عليهما السلام. ويؤمن برسالتهما، ويعتقد بالتوراة والإنجيل التي أنزلها الله، ولا يحمله إيمانه على إيذاء زوجته (اليهودية) أو (النصرانية) بسبب العقيدة؛ لأنه يلتقي معها على الإيمان بالله، وتعظيم رسله، فلا يكون اختلاف الدين سبباً للأذى أو الاعتداء، بخلاف غير المسلم الذي لا يؤمن بالقرآن ولا برسالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام؛ فإن عدم إيمانه يدعوه إلى إيذاء المسلمة، والاستخفاف بدينها، والنيل منها.
المسألة الخامسة:
نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حرباً على المسلمين لا يجوز عند أكثر أهل العلم، وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، فقال: لا يحل، وتلا قول الله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} إلى قوله: {وهم صاغرون} (التوبة:29). وكره مالك تزوج الحربيات؛ لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير.
المسألة السادسة:
نكاح نساء المجوس لا يجوز عند جمهور أهل العلم؛ لقوله تعالى: {ولا تنكحوا
المشركات حتى يؤمن} (البقرة:221) أي: لا تزوجوا المسلمة من المشرك. وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه؛ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام. وقال الإمام أحمد: لا يعجبني، بمعنى أنه كرهه، ولم يقل بحرمته. وروي أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه تزوج مجوسية، وأن عمر رضي الله عنه قال له: طلقها.
المسألة السابعة: الكافر إذا أسلمت زوجته يفسخ النكاح بينهما، ثم إذا أسلم هو كان أحق بها ما دامت في العدة.
المسألة الثامنة: اتفق العلماء على أن الإيمان يحصل بالإقرار بالشهادتين، والتزام أحكام الإسلام، ولا يكفي الإقرار وحده لحصول الإيمان.
المسألة التاسعة: ذهب كثير من أهل العلم أن النكاح لا يكون إلا بولي؛ واحتجوا لمذهبهم بأدلة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى في هذه الآية: {ولا تنكحوا المشركين} فالخطاب في الآية للأولياء. وقال أبو حنيفة -وهو قول الزهري والشعبي-: إذا زوجت المرأة نفسها كفؤاً بشاهدين، فذلك
نكاح جائز. وإن زوجت نفسها غير كفء، فالنكاح جائز، وللأولياء أن يفرقوا بينهما. قال ابن المنذر: "وما قاله النعمان مخالف للسنة، خارج عن قول أكثر أهل العلم". وذهب الحنفية أيضاً إلى أن المرأة إذا أذن لها وليها، فعقدت النكاح بنفسها جاز.
وذهب مالك إلى أن المرأة إذا ولَّت أمرها رجلاً، فزوجها كفؤاً، فالنكاح جائز، وليس للولي أن يفرق بينهما. وعقد النكاح عند مالك لا يكون إلا للولي، أو للسلطان. وأما الشافعي وأصحابه فالنكاح عندهم بغير ولي مفسوخ أبداً قبل الدخول وبعده، ولا يتوارثان إن مات أحدهما. والولي عندهم من فرائض النكاح؛ لقيام الدليل عندهم من الكتاب والسنة.
المسألة العاشرة: اختلفوا في النكاح يقع من غير الولي، ثم يجيزه الولي، فقال مالك: ذلك جائز، إذا كانت إجازته لذلك قريبة، وسواء دخل أو لم يدخل. هذا إذا عقد النكاح غير ولي، ولم تعقده المرأة بنفسها، فإن زوجت المرأة نفسها، وعقدت عقدة النكاح من غير ولي قريب ولا بعيد من المسلمين، فإن هذا النكاح لا يُقر أبداً على حال، ولا بد من فسخه على كل حال، وبهذا قال جمهور أهل العلم، وأجازه أبو حنيفة.
المسألة الحادية عشرة: الوصي مقدم في عقد
نكاح الأيتام الذين هم تحت وصايته على الأولياء؛ لأنه خليفة الأب ووكيله، فأشبه حاله لو كان الأب حيًّا. وقال الشافعي: لا ولاية لأحد مع الأب، فإن مات فالجد، ثم أب أب الجد؛ لأنهم كلهم آباء. وقال الإمام أحمد: أحقهم بالمرأة أن يزوجها أبوها، ثم الابن، ثم الأخ، ثم ابنه، ثم العم.
المسألة الثانية عشرة: اختلف في المرأة يزوجها من أوليائها الأبعد، والأقرب حاضر، فقال الشافعي: النكاح باطل. وقال مالك: النكاح جائز. فلو كان الولي الأقرب محبوساً، أو سفيهاً، زوجها من يليه من أوليائها، وعد كالميت منهم، وكذلك إذا غاب الأقرب من أوليائها غيبة بعيدة، أو غيبة لا يُرجى لها أوبة سريعة، زوجها من يليه من الأولياء. وإذا كان الوليان قد استويا في القرابة، وغاب أحدهما، وفوضت المرأة عقد نكاحها إلى الحاضر، لم يكن للغائب إن قدم نقض العقد. وإن كانا حاضرين ففوضت أمرها إلى أحدهما، لم يزوجها إلا بإذن صاحبه، فإن اختلفا نظر الحاكم في ذلك، وأمضى عليها رأي أحسنهما نظراً لها.
المسألة الثالثة عشرة: الشهادة على النكاح شرط عند جمهور أهل العلم، فلا بد من شاهدين لعقد النكاح، وكل
نكاح لم يشهد عليه رجلان فصاعداً، يفسخ على كل حال. والشهادة على النكاح عند المالكية ليست بشرط، ويكفي من ذلك شهرة العقد والإعلان به، وخرج عن أن يكون
نكاح سر.
يبقى بعد ما تقدم أمران:
الأول: أن كثيراً من أهل الكتاب اليوم قد فسدت عقائدهم، وانحرفت مسالكهم؛ فبعض النصارى يؤلهون عيسى عليه السلام، وبعضهم الآخر يجعلونه شريكاً لله، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيراً، وكذلك بعض اليهود يقولون: {عزير ابن الله} (التوبة:30)، فعلى هذا، أمثال هؤلاء يدخلون في حكم المشركين، الذين نصت عليهم الآية بحرمة زواج المسلم منهم، وبذلك قال بعض أهل العلم كما تقدم؛ ففي "الموطأ" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول المرأة: ربها عيسى". ومن المقرر أصولاً أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والآية التي أباحت الزواج بالكتابيات لابد من تقييدها بالكتابيات اللائي لم تفسد عقائدهن، وبذلك تأتلف النصوص وتتفق. ورحم الله عمربن الخطاب رضي الله عنه، فقد كان ينظر إلى مصالح المسلمين، نسائهم ورجالهم، ويسوسهم بالنظر والمصلحة، وما أحوجنا إلى مثل هذه السياسة، فإن كثيراً من الشباب المسلمين رغبوا عن الزواج من المحصنات المسلمات إلى الزواج بالكتابيات الأجنبيات.
الثاني: أن بعض المسلمات في بعض ديار الإسلام، وبعض المسلمات المقيمات في ديار الغرب، يتزوجن من النصارى، أو ممن ليس له دين، وهو أمر اتفق المسلمون على حرمته، فينبغي التحذير منه، والعمل على تهيئة الأسباب التي تمنع، أو على الأقل تحد من هذا المسلك. {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} (الأحزاب:4).