من الآيات التي تناولت بعض أحكام الحج قوله تعالى: {إن
الصفا والمروة من
شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن
الله شاكر عليم} (البقرة:158).
الحديث عن {الصفا والمروة} كشعيرة من
شعائر الحج تنظمه النقاط التالية :
أولاً: روى البخاري عن عاصم بن سليمان، قال: سألت أنس بن مالك عن
الصفا والمروة، فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل
الله عز وجل: {إن
الصفا والمروة من
شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}.
وروى الترمذي عن عروة قال: (قلت لعائشة: ما أرى على أحد لم يطف بين
الصفا والمروة شيئاً، وما أبالي ألا أطوف بينهما. فقالت: بئس ما قلت يا ابن أختي! طاف رسول
الله صلى
الله عليه وسلم، وطاف المسلمون، وإنما كان من أهلَّ لمناة الطاغية، لا يطوفون بين
الصفا والمروة، فأنزل
الله تعالى: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}، ولو كانت كما تقول لكانت: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما). قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك، وقال: إن هذا لعلم.
ومما روى عن عائشة رضي
الله عنه بخصوص السعي قولها: (وقد سنَّ رسول
الله صلى
الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما).
ثانياً: قال ابن العربي معلقاً على ما جاء في حديث عروة: "وتحقيق القول فيه أن قول القائل: لا جناح عليك أن تفعل، إباحة الفعل. وقوله: لا جناح عليك ألا تفعل، إباحة لترك الفعل، فلما سمع عروة قول
الله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما}، قال: هذا دليل على أن ترك الطواف جائز، ثم رأى الشريعة مطبقة على أن الطواف لا رخصة في تركه، فطلب الجمع بين هذين المتعارضين. فقالت له عائشة: ليس قوله: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} دليلاً على ترك الطواف، إنما كان يكون دليلاً على تركه لو كان: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما)، فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف، ولا فيه دليل عليه، وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرج منه في الجاهلية، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية؛ قصداً للأصنام التي كانت فيه، فأعلمهم
الله سبحانه أن الطواف ليس بمحظور، إذا لم يقصد الطائف قصداً باطلاً".
وقال ابن عاشور في هذا الصدد: "نفي (الجناح) عن الذي يطوف بين
الصفا والمروة لا يدل على أكثر من كونه غير منهي عنه، فيصدق بالمباح، والمندوب، والواجب، والركن؛ لأن المأذون فيه يصدق بجميع المذكورات، فيحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر. فـ (الجناح) المنفي في الآية (جناح) عَرَضَ للسعي بين
الصفا والمروة في وقت نصب (إساف) و(نائلة) عليهما، وليس لذات السعي، فلما زال سببه زال الجناح، كما في قوله تعالى: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} (النساء:128)، فنفى (الجناح) عن (التصالح)، وأثبت له أنه خير، فـ (الجناح) المنفي عن الصلح ما عرض قبله من أسباب النشوز والإعراض".
ثالثاً: اختلف العلماء في حكم السعي بين
الصفا والمروة، وهم في ذلك على ثلاثة مذاهب:
الأول: مذهب الشافعي، وهو المشهور من مذهب مالك، ورواية عن الإمام أحمد أن السعي بين
الصفا والمروة فرض؛ لقوله عليه السلام: (اسعوا؛ فإن
الله كتب عليكم السعي)، رواه الدار قطني. و(كتب) بمعنى أوجب، كقوله تعالى: {كتب عليكم الصيام} (البقرة:183)، قالوا: فمن ترك السعي، أو شوطاً منه، ناسياً، أو عامداً، رجع من بلده، أو من حيث ذكر إلى مكة، فيطوف، ويسعى؛ لأن السعي لا يكون إلا متصلاً بالطواف. فإن كان قد أصاب النساء، فعليه عمرة وهدي عند مالك مع تمام مناسك الحج. وقال الشافعي: عليه هدي، ولا معنى للعمرة إذا رجع وطاف وسعى.
ورجح الشيخ الصابوني القول بأن السعي فرض، فقال: "الصحيح قول الجمهور؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سعى بين
الصفا والمروة، وقال: (خذوا عني مناسككم) رواه البيهقي، والاقتداء بالرسول صلى
الله عليه وسلم واجب، ودعوى من قال: إنه تطوع أخذاً بالآية غير ظاهر؛ لأن معناها كما قال الطبري: أن يتطوع بالحج والعمرة مرة أخرى".
الثاني: مذهب أبي حنيفة والثوري أن السعي بين
الصفا والمروة واجب وليس بفرض؛ واحتج الحنفية لذلك بأنه لم يثبت السعي بدليل قطعي الدلالة، فلا يكون فرضاً، بل واجباً، قال الجصاص -وهو من الحنفية-: "هو عند أصحابنا من توابع الحج، يجزئ عنه الدم لمن رجع إلى أهله، مثل الوقوف بالمزدلفة، ورمي الجمار، وطواف الصَّدَر". فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم؛ لأنه سنة من سنن الحج. وهو قول مالك في "العتبية". ورجح صاحب "المغني" هذا القول، قال: "هو أولى؛ لأن دليل من أوجبه دلّ على مطلق الوجوب، لا على كونه لا يتم الواجب إلا به".
الثالث: وذهب جماعة من السلف -وهو رواية عن الإمام أحمد - إلى أن السعي بين
الصفا والمروة سنة. واستدل من قال بأن السعي تطوع، وليس بركنٍ ولا واجب بدليلين:
أحدهما: قوله تعالى: {ومن تطوع خيرا فإن
الله شاكر عليم}، فبيّن أنه تطوع، وليس بفرض ولا واجب، فمن تركه لا شيء عليه؛ عملاً بظاهر الآية.
ثانيهما: حديث (الحج عرفة)، رواه أصحاب السنن إلا أبو داود، قالوا: فهذا الحديث يدل على أن من أدرك عرفة فقد تمّ حجه.
قال الشيخ السايس رحمه الله: "والظاهر أن الآية لا تشهد لأحد المختلفين؛ لأننا علمنا السبب في أنها عرضت لرفع (الجناح) على من تطوَّف بهما، وهو أنهم كانوا يتحرجون من السعي بينهما؛ لأنه كان عليهما في الجاهلية صنمان. وقالوا: كان يطاف بهما من أجل الوثنين. فبين
الله أنه يطاف بهما من أجل الله، وأنهما من شعائره، فلا يتحرجون من السعي بينهما، وقوله: {ومن تطوع خيرا} كما يحتمل: ومن تطوع بالتطوف بهما، يحتمل: ومن تطوع بالزيادة على الفرض من التطوف بهما، أو من الحج، فلم يبق من مستند في هذه المسألة إلا السنة، وقد روي في ذلك آثار مختلفة، فيُرجع إلى الترجيح بين هذه الآثار، بالسند والدلالة".
رابعاً: اختلف أهل العلم في الركض والسعي الشديد بين الميلين الأخضرين في أثناء السعي؛ فقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم فيه أخبار مختلفة؛ ومذهب الحنفية أنه مسنون، لا ينبغي تركه، كالرَّمل في الطواف، وروى سعيد بن جبير، قال: (رأيت ابن عمر يمشي بين
الصفا والمروة، وقال: إن مشيت فقد رأيت رسول
الله صلى
الله عليه وسلم يمشي، وإن سعيت فقد رأيت رسول
الله صلى
الله عليه وسلم يسعى).
خامساً: المسنون أن يبدأ الساعي بالسعي من
الصفا قبل المروة؛ فإن بدأ بالمروة قبل الصفا، فالمشهور عند أهل العلم أنه لا يُعتد بذلك الشوط حتى تكون البداية من الصفا، وروي عن أبي حنيفة أنه ينبغي له أن يُعيدَ ذلك الشوط، فإن لم يفعل، فلا شيء عليه، وجعله بمنـزلة ترك الترتيب في أعضاء الوضوء، فتارك الترتيب بين أعضاء الوضوء، تارك للسنة، ووضوؤه صحيح.
سادساً: يجزئ السعي بين
الصفا والمروة راكباً؛ لعذر ولغير عذر؛ لما روى جابر رضي
الله عنه، قال: (طاف النبي صلى
الله عليه وسلم في طواف حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين
الصفا والمروة؛ ليراه الناس، ويسألوه)، وهذا مذهب الشافعي وأحمد، ومالك، إلا أن مالكاً استحب لمن سعى راكباً من عذر أن يعيده إن زال عذره. وأوجب عليه الحنفية دماً إن سعى راكباً لغير عذر؛ لأن السعي بنفسه عند القدرة على المشي واجب، فإذا تركه فقد ترك الواجب من غير عذر، فيلزمه الدم، كما لو ترك المشي في الطواف من غير عذر.