من المعاملات المالية التي أبطلها الإسلام، وتوعد المتعاملين بها بالحرب التعامل بالربا، الذي يعدُّ وسيلة من وسائل ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم، وكان هذا النوع من التعامل سائداً في الجاهلية قبل الإسلام، وهو اليوم في الجاهلية المعاصرة أشد شيوعاً، يقول سبحانه في إبطال هذا النوع من التعامل: {الذين يأكلون
الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل
الربا وأحل الله البيع
وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة:275) قال ابن العربي: "هذه الآية من أركان الدين".
الحديث حول هذه الآية يتجه أساساً إلى بيان بعض أحكام الربا، وذلك على ضوء المسائل التالية:
المسألة الأولى: قوله سبحانه: {يأكلون} أي: يأخذون، فعبر عن الأخذ بالأكل؛ لأن الأخذ إنما يراد للأكل، و(الأكل) في الحقيقة ابتلاع الطعام، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء، وأخذه بحرص، وأصله تمثيل، ثم صار حقيقة عرفية، فقالوا: أكل مال الناس، قال سبحانه: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} (النساء:10).
المسألة الثانية: أصل
الربا في اللغة: الزيادة، ومنه الرابية؛ لزيادتها على ما حواليها من الأرض، ومنه الربوة من الأرض: وهي المرتفعة، ومنه قولهم: أربى فلان على فلان في القول، أو الفعل: إذا زاد عليه.
و(الربا) في عُرف الشرع يقع على وجهين: أحدهما: السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف، ويسمى ربا الفضل. والثاني: السلف بدون زيادة إلى أجل، فإذا لم يوف المستسلف أداء الدين عند الأجل، كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتفقان عليها عند حلول كل أجل، ويسمى هذا ربا النسيئة، وهو
الربا الذي تعارف عليه أهل الجاهلية.
وكُتب لفظ (الربا) في المصحف حيثما وقع بـ (واو) بعدها ألف {الربوا}، والشأن أن يُكتب ألفاً؛ وذلك إشارة إلى أصله، كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات.
المسألة الثالثة: قوله عز وجل: {لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} أكثر المفسرين على أن المراد: القيام يوم القيامة، وقال بعضهم: المراد القيام من القبر، والظاهر شموله للأمرين. و(التخبط) الضرب على غير استواء، وتخبطه الشيطان إذا مسه بخَبَل، أو جنون.
المسألة الرابعة: قرر الفقهاء أن
الربا نوعان:
الأول: (ربا النسيئة) وهو الذي كان معروفاً في الجاهلية، وهو أن يقرضه قدراً معيناً من المال إلى زمن محدود، كشهر، أو سنة مثلاً مع اشتراط الزيادة فيه، نظير امتداد الأجل. وهذا النوع من
الربا هو المستعمل الآن في البنوك والمصارف المالية، حيث يأخذون نسبة معينة في المائة كخمسة، أو عشرة في المائة، ويدفعون الأموال إلى الشركات والأفراد.
الثاني: (ربا الفضل) وهو الذي وضحته السنة النبوية المطهرة، وهو أن يبيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر، مثاله: أن يبيع كيلاً من القمح بكيلين من قمح آخر، أو رطلاً من العسل الشامي برطل ونصف من العسل الحجازي، وهكذا في جميع المكيلات والموزونات.
والقاعدة الفقهية في هذا النوع من التعامل هي أنه: إذا اتحد الجنسان حَرُم الزيادة والنَّساء -بفتح النون المشددة- (التأخير)، وإذا اختلف الجنسان، حلّ التفاضل (الزيادة)، دون النَّساء.
المسألة الخامسة: الآية هنا نصت على حُرمة
الربا نصًّا مجملاً {وحرم الربا} وجاءت السنة فبينت الأموال الربوية التي لا يصح التعامل فيها بالزيادة أو التأخير، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مِثْلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد، أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) متفق عليه، واللفظ لمسلم؛ لذلك أجمع العلماء على القول بمقتضى هذه السنة، وحرمة التعامل في هذه الأجناس إلا مثلاً بمثل، ويداً بيد، من غير تفاضل، ولا تأخير.
وفي هذا الصدد جاء أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما؛ من كانت له حاجة بوَرِقٍ (الفضة)، فليصرفها بذهب، وإن كانت له حاجة بذهب، فليصرفها بوَرِق، هاء وهاء) رواه ابن ماجه، قال الشيخ الألباني: صحيح. قال العلماء: قوله عليه السلام: (الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما) إشارة إلى جنس الأصل المضروب؛ فالفضة البيضاء والسوداء، والذهب الأحمر والأصفر، كل ذلك لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلاً بمثل، سواء بسواء على كل حال.
المسألة السادسة: اختلف العلماء بعد اتفاقهم على الأموال الربوية التي نصت عليها الأحاديث، فقال نفاة القياس: إن الحرمة مقصورة على هذه الأشياء الستة: الذهب، والفضة، والبُر، والشعير، والتمر، والملح. وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الحرمة غير مقصورة على هذه الأشياء الستة، بل تتعداها إلى غيرها، وأن الحرمة ثبتت في هذه الستة لعلة، فتتعدى الحرمة إلى كل ما توجد فيه العلة.
المسألة السابعة: ثم إن القائلين بالتعليل -وهم الجمهور- اختلفوا في علة الربا؛ فقال الحنفية: إن العلة هي اتحاد هذه الأشياء الستة في الجنس والقَدْر، أي: الكيل والوزن، فمتى اتحد البدلان في الجنس والقَدْر، حَرُم
الربا بقسميه، كبيع الحنطة بالحنطة، وإذا عُدِما معاً، حلّ التفاضل والنسيئة: كبيع الحنطة بالدراهم إلى أجل، وإذا عُدم القَدْر، واتحد الجنس، حلَّ الفضل دون النسيئة، كبيع سيارة بسيارتين، وإذا عُدم الجنس، واتحد القَدْر، حلَّ الفضل دون النسيئة، كبيع الحنطة بالشعير.
وقال المالكية: إن العلة هي اتحاد الجنس مع الاقتيات، أو ما يصلح به الاقتيات (القوت).
وقال الشافعية: إن العلة في الذهب والفضة هي اتحاد الجنس مع الثمنيّة. وفي الأشياء الأربعة الباقية اتحاد الجنس مع الطعم.
المسألة الثامنة: مذهب جمهور أهل العلم أن عقد
الربا مفسوخ لا يجوز بحال، وذهب أبو حنيفة إلى أن بيع
الربا جائز بأصله من حيث هو بيع، ممنوع بوصفه من حيث هو ربا، فيسقط الربا، ويصح البيع.
المسألة التاسعة: قال العلماء: لو اتفق كلٌّ من الدائن والمدين على إسقاط قَدْر من الدين المستَحَق على المدين، مقابل تقديم أجل دفع الدين المتفق عليه بداية، فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه في معنى ربا الجاهلية، الذي هو قرض مؤجل بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلاً من الأجل، فأبطله الله بتحريم الربا، وقد روى سفيان عن حميد عن ميسرة، قال: سألت ابن عمر رضي الله عنهما: يكون لي على الرجل الدين إلى أجل، فأقول: عجِّل لي، وأضع عنك، فقال: هو رباً. وروي عن زيد بن ثابت أيضاً النهي عن ذلك، وهو قول عامة الفقهاء، وقال ابن عباس وإبراهيم النخعي: لا بأس بذلك.
المسألة العاشرة: سئل سعيد بن المسيَّب عن رجل باع طعاماً من رجل إلى أجل، فأراد الذي اشترى الطعام أن يبيعه بنقد من الذي باعه منه، فقال: هو رباً، ومعلوم أنه أراد شراءه بأقل من الثمن الأول؛ إذ لا خلاف أن شراءه بمثله، أو أكثر منه جائز، وهذا ما يسمى ببيع العينة.
وأيضاً، إن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها، ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى، ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن هذه أيضا عينة، وهي أهون من الأولى، وأجازه بعض أهل العلم.
المسألة الحادية عشرة: لا يعول على قول من قال: إن
الربا المحرم إنما هو
الربا الفاحش، الذي تكون النسبة فيه مرتفعة، ويقصد منه استغلال حاجة الناس، أما
الربا القليل الذي لا يتجاوز نسبته اثنين، أو ثلاثة في المائة، فإنه غير محرم، ويحتجون على قولهم هذا، بأن الله تبارك وتعالى إنما حرم
الربا إذا كان فاحشاً، حيث قال تعالى: {لا تأكلوا
الربا أضعافا مضاعفة} (آل عمران:130) قالوا: إن النهي إنما جاء مشروطاً ومقيداً، وهو كونه مضاعفاً أضعافاً كثيرة، فإذا لم يكن كذلك، وكانت النسبة فيه يسيرة، فلا وجه لتحريمه! وبئس ما قالوا؛ وذلك لأمور:
أولاً: أن قوله تعالى: {أضعافا مضاعفة} ليس قيداً ولا شرطاً، وإنما هو لبيان الواقع الذي كان التعامل عليه أيام الجاهلية، كما جاء في سبب النزول، وللتشنيع عليهم بأن في هذه المعاملة ظلماً صارخاً وعدواناً مبيناً، حيث كانوا يأخذون
الربا مضاعفاً أضعافاً كثيرة، فمفهوم المخالفة في الآية لاغ وساقط، لا اعتبار له، كما يقول أهل الأصول.
ثانياً: أن المسلمين قد أجمعوا على تحريم
الربا قليله وكثيره، وهذا القول يعتبر خروجاً على الإجماع، كما لا يخلو عن جهل بأصول الشريعة؛ فإن قليل
الربا يدعو إلى كثيره، فالإسلام حين يحرم الشيء يحرمه كليًّا؛ أخذاً بقاعدة (سدّ الذرائع) لأنه لو أباح القليل منه لجرّ ذلك إلى الكثير منه، والربا كالخمر في الحرمة، فهل يقول مسلم عاقل: إن القليل من الخمر حلال؟ لذلك قال العلماء: ما جرى
الربا فيه بالتفاضل في كثيره، دخل قليله في ذلك؛ قياساً ونظراً.
ثالثاً: ثم يقال للقائلين بهذا القول: {أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} (البقرة:85)؟ فلماذا تحتجون بهذه الآية على دعواكم الباطلة، ولا تقرؤون قوله تعالى: {وأحل الله البيع
وحرم الربا} وقوله تعالى: {اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا} (البقرة:278) وقوله سبحانه: {يمحق الله
الربا ويربي الصدقات} (البقرة:276) هل في هذه الآيات ما يقيد
الربا بالقليل، أو الكثير، أم اللفظ مطلق؟ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن رسول الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه)، وقال: (هم سواء) رواه مسلم، فالربا محرم بجميع أنواعه بالنصوص القطعية، والقليل والكثير في الحرمة سواء. وصدق الله حيث يقول: {يمحق الله
الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم}.
المسألة الثانية عشرة: يجوز
الربا في هبة الثواب، وقد قال عمر رضي الله عنه: (أيما رجل وهب هبة، يرى أنها للثواب، فهو على هبته، حتى يرضى منها)؛ فهو مستثنى من الممنوع الداخل في عموم تحريم الربا.
المسألة الثالثة عشرة: قال العلماء: إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام؛ إن كانت من ربا، فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضراً، فإن أيس من وجوده، فليتصدق بذلك عنه. وإن أخذه بظلم، فليفعل كذلك في أمر من ظلمه. فإن التبس عليه الأمر، ولم يدر مقدار الحرام من الحلال مما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خَلَص له، فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه، أو أربى عليه. فإن أيس من وجوده، تصدق به عنه. فإن أحاطت المظالم بذمته، وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبداً لكثرته، فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع، إما إلى المساكين، وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس، وهو ما يستر العورة، وقوت يومه؛ لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه.
المسألة الرابعة عشرة: ذهب بعض الغلاة في الدين إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز، ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به، لم يَحِل، ولم يَطِب؛ لأنه يمكن أن يكون الذي أُخرج هو الحلال، والذي بقي هو الحرام، قال ابن العربي: "وهو غلو في الدين؛ فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه، ولو تلف لقام المثل مقامه، والاختلاط إتلاف لتميزه، كما أن الإهلاك إتلاف لعينه، والمثل قائم مقام الذاهب، وهذا بيِّنٌ، حسًّا، بيِّنٌ معنى".
المسألة الخامسة عشرة: على إمام المسلمين محاربة
الربا ومحاربة من أصر على التعامل بها، وقد سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من
الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} (البقرة: 278-279) وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: من كان مقيماً على
الربا لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع، وإلا ضرب عنقه. وقال قتادة: أوعد الله أهل
الربا بالقتل، فجعلهم بهرجاً -شيئاً مباحاً- أينما ثقفوا -وجدوا-.
قال أهل العلم: "ولو أن أهل بلد اصطلحوا على
الربا استحلالاً كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالاً، جاز للإمام محاربتهم، ألا ترى أن الله تعالى قد أذن في ذلك، فقال: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} دلت هذه الآية على أن أكل
الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك.