لما ذكر سبحانه مشروعية كتابة الدَّيْن، والإشهاد؛ لحفظ الأموال ودَفْعِ الاختلاف، عقب ذلك بذكر حالة العذر عن وجود الكاتب، ونص على حالة السفر، فقال سبحانه: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا
فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم} (البقرة:283). هذه الآية تضمنت جملة من الأحكام المتعلقة بالرهن، نقف عليها في المسائل التالية:
المسألة الأولى: قوله تعالى: {وإن كنتم على سفر} قال جمهور العلماء: الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل، وفي الحضر ثابت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن ثم قالوا: "الكلام؛ وإن خرج مخرج الشرط، فالمراد به غالب الأحوال؛ لأن الكاتب إنما يُعدم في السفر غالباً، فأما في الحضر فلا يكون ذلك بحال، وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره". وقد أخذ مجاهد، وأهل الظاهر بظاهر الآية من تقييد الرهن بحال السفر، مع أن السنة أثبتت وقوع الرهن من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه في الحضر؛ وهذا يدل على أن الشرط للتغليب، وأن ذكر هذه الخصال: الكتابة والإشهاد والرهن على سبيل الإرشاد والحزم، لا على سبيل العزم، وإلا لما جاز الرهن في الحضر.
المسألة الثانية: الرهن اسم للشيء المرهون، تسمية للمفعول بالمصدر، كالخَلْق. ومعنى الرهن: أن يُجْعل شيء من متاع المدين بيد الدائن؛ توثقة له في دينه. وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحبس، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} (المدثر:38) فالمرهون محبوس بيد الدائن إلى أن يستوفي دينه.
المسألة الثالثة: مذهب جمهور أهل العلم وجوب استدامة قبض الرهن، فإذا خرج الرهن من يد المرتهن إلى الراهن بوجه من الوجوه بطل الرهن؛ لأنه فارق ما جُعل باختيار المرتهن له. غير أن أبا حنيفة قال: إن رجع بعارية، أو وديعة، لم يبطل. ولم يشترط الشافعي استدامة القبض، وذهب إلى أن رجوعه إلى يد الراهن مطلقاً لا يبطل حكم القبض المتقدم.
المسألة الرابعة: مذهب الحنفية والشافعية أنه إذا رهنه قولاً، ولم يقبضه فعلاً، لم يوجب ذلك حكماً؛ لقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} قال الشافعي: "لم يجعل الله الحكم إلا برهن موصوف بالقبض، فإذا عُدمت الصفة وجب أن يُعدم الحكم". ومذهب المالكية أنه يلزم الرهن بالعقد، ويجبر الراهن على دفع الرهن، ليحوزه المرتهن. فالقبض عند المالكية شرط في كمال فائدته. وعند الحنفية والشافعية شرط في لزومه وصحته.
المسألة الخامسة: إذا قبض المرتهن الرهن لم يجز انتزاعه من يده؛ لأنه إذا انتزعه من يده فقد خرج عن الصفة التي وجبت له من القبض، وترتب عليها الحكم.
المسألة السادسة: لو اتفق الراهن والمرتهن على وَضْع الرهن عند عدل، فضاع من العدل، فمذهب الحنفية أن الرهن يكون مضموناً على المرتهن. وقال مالك والشافعي إذا جعلاه على يدي عدل فضياعه من الراهن، ولم يضمن المرتهن، ولا الموضوع على يده؛ لأن المرتهن لم يكن في يده شيء يضمنه. والموضوع على يده أمين، والأمين غير ضامن.
المسألة السابعة: ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز رهن المشاع -المشترك الذي لم يحدد- فيصح الرهن حيث يتصور القبض من المرتهن، ويبطل حيث يمتنع القبض؛ كرهن جزء من الأرض المشتركة. ومنع الحنفية ذلك؛ لأنه لا يتصور عندهم قبضه، فلا يجوز عندهم أن يرهنه ثلث دار، ولا نصف سيارة، ونحو ذلك.
المسألة الثامنة: مذهب الحنفية أنه لا يجوز للمرتهن الانتفاع بشيء من الرهن ولا الراهن أيضاً. وذهب الإمام أحمد إلى أن المرتهن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب بقدر النفقة. وقال مالك والشافعي: منفعة الرهن للراهن، ونفقته عليه، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خلا الإحفاظ للوثيقة. قال الخطابي: وهو أولى الأقوال وأصحها. وقال ابن عبد البر: "أجمعوا أن لبن الرهن وظهره للراهن. ولا يخلو من أن يكون احتلاب المرتهن له بإذن الراهن، أو بغير إذنه؛ فإن كان بغير إذنه، ففي حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه) رواه ابن ماجه ومالك، وصححه الشيخ الألباني، ما يرده، ويقضي بنسخه. وإن كان بإذنه، ففي الأصول المجتمع عليها في تحريم المجهول والغرر وبيع ما ليس عندك، وبيع ما لم يخلق، ما يرده أيضاً".
المسألة التاسعة: لا يجوز غلق الرهن، وهو أن يشترط المرتهن أنه له بحقه إن لم يأته به عند أجله. وكان هذا من فعل الجاهلية، فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يَغْلَقُ الرهن) رواه ابن ماجه ومالك، وضعفه الشيخ الألباني. قال مالك: "وتفسير ذلك فيما نرى، أن يرهن الرجل الرهن عند الرجل بالشيء، وفي الرهن فضل عما رهن به، فيقول الراهن للمرتهن: "إن جئتك بحقك -إلى أجل يسميه له- وإلا فالرهن لك بما رهن فيه" قال: "فهذا لا يصلح ولا يحل، وهذا الذي نُهِيَ عنه، وإن جاء صاحبه بالذي رهن به بعد الأجل، فهو له، وأرى هذا الشرط منفسخاً".
المسألة العاشرة: إذا حل الأجل وجب على المدين إيفاء الدين، فإن وفَّى انفك الرهن ورجع إلى صاحبه، فإن لم يوفِ الدَّيْن عند حلول الأجل، فإن المرتهن يرفع الأمر إلى القاضي، فيكلف القاضي الراهن بقضاء الدين، فإن لم يفعل وأصر، باعه القاضي ووفَّى دين المرتهن. وقال الحنفية: لا يبيعه القاضي، بل يحبس الرهن حتى يبيعه الراهن.
المسألة الحادية عشرة: اتفق أهل العلم على أن الراهن إذا مات فإن المرتهن أحق بالرهن من سائر الغرماء، حتى يباع، فيستوفي دينه منه.
المسألة الثانية عشرة: مذهب الحنفية أنه كما يجوز رهن العين كذلك يجوز رهن الدين، فإذا تعامل رجلان لأحدهما على الآخر دين، فرهنه دينه الذي له عليه، وكان قبضه قبضاً.
المسألة الثالثة عشرة: مذهب المالكية أنه إذا اختلف الراهن والمرتهن في قيمة الرهن، فالقول قول المرتهن ما بينه وبين قيمة الرهن، ومذهب الحنفية والشافعية أن القول قول الراهن.
المسألة الرابعة عشرة: نماء الرهن داخل معه إن كان لا يتميز كالسمن، أو كان نسلاً كالولادة والنِّتاج، وفي معناه فسيل النخل، وما عدا ذلك من غلة وثمرة ولبن وصوف، فلا يدخل فيه إلا أن يشترطه. والفرق بينهما أن الأولاد تبع في الزكاة للأمهات، وليس كذلك الأصواف والألبان وثمر الأشجار؛ لأنها ليست تبعاً للأمهات في الزكاة، ولا هي في صورها، ولا في معناها، ولا تقوم معها، فلها حكم نفسها لا حكم الأصل، خلاف الولد والنِّتاج.
المسألة الخامسة عشرة: قوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته} المراد أن يقول كلا المتعاملين للآخر: لا حاجة لنا بالإشهاد، ونحن يأمن بعضنا بعضاً. والمعنى: إن كان الذي عليه الحق أميناً عند صاحب الحق وثقة، فليؤد له ما عليه ائتمن. وهو أمر معناه الوجوب، بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون. قال ابن عاشور: "هذه الآية تشريع مستقل يعم جميع الأحوال المتعلقة بالديون: من إشهاد، ورهن، ووفاء بالدين، والمتعلقة بالتبايع، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة (بعض) ليشمل الائتمان كلا الجانبين: الذي من قِبَلِ رب الدين، والذي من قِبَل المدين. فربُّ الدَّيْن يأتمن المدين، إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد عليه، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر. والمدين يأتمن الدائن إذا سلم له رهناً أغلى ثمناً من قيمة الدَّيْن المرتهن فيه، والغالب أن الرهان تكون أوفر قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها، فأمر كل جانب مؤتمن أن يؤدي أمانته، فأداء المدين أمانته بدفع الدَّيْن، دون مطل، ولا جحود، وأداء الدائن أمانته إذا أُعطي رهناً متجاوز القيمة على الدين أن يرد الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدَّيْن؛ لأن الرهن أوفر منه، ولا ينقص شيئاً من الرهن".
قال ابن عاشور: "وأطلق هنا اسم (الأمانة) على (الدَّيْن) في الذمة وعلى الرهن؛ لتعظيم ذلك الحق؛ لأن اسم الأمانات له مهابة في النفوس، فذلك تحذير من عدم الوفاء به؛ لأنه لما سمي أمانة، فعدم أدائه ينعكس خيانة؛ لأنها ضدها، وفي الحديث: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) رواه أبو داود والترمذي، وصححه الشيخ الألباني.
المسألة السادسة عشرة: قوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة} إذا شهد على الحق شهود، تعين عليهم أداؤها على الكفاية، فإن أداها اثنان، واكتفى الحاكم بهما سقط الفرض عن الباقين، وإن لم يكتف بهما تعين المشي إليه حتى يقع الإثبات. وهذا يُعْلَم بدعاء صاحبها، فإذا قال له: أحي حقي بأداء ما عندك لي من الشهادة، تعين ذلك عليه. قال أهل العلم: "مقتضى النهي إفادة التكرار، أي تكرار الانكفاف عن فعل المنهي في أوقات عروض فعله، والتكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داع لفعل المنهي عنه، فلذلك كان حقاً على من تحمل شهادة بحق ألا يكتمه عند قيام مقتضى إعلانه: بأن يبلغه إلى من ينتفع به، أو يقضي به كلما ظهر الداعي إلى الاستظهار به، أو إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه: بغيبة، أو طروء نسيان، أو عروض موت، بحسب ما يتوقع الشاهد أنه حافظ للحق الذي في علمه، على مقدار طاقته واجتهاده".
المسألة السابعة عشرة: قال العلماء: "الذي أمر الله تعالى به من الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البين، ونفي التنازع المؤدي إلى فساد ذات البين؛ لئلا يسول له الشيطان جحود الحق، وتجاوز ما حد له الشرع، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق، ولأجله حرم الشرع البياعات المجهولة، التي اعتيادها يؤدي إلى الاختلاف، وفساد ذات البين، وإيقاع التضاغن، والتباين".
المسألة الثامنة عشرة: قال القرطبي: "لما أمر الله تعالى بالكتابة والإشهاد وأخذ الرهان، كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، ورداً على الجهلة الذين لا يرون ذلك، فيخرجون عن جميع أموالهم، ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله، فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم، وهذا الفعل مذموم منهي عنه".