مقاصد
سورة فصلت
سورة
فصلت هي السورة الواحدة والأربعون بحسب ترتيب المصحف العثماني، وهي السورة الحادية والستون في ترتيب نزول السور. نزلت بعد
سورة غافر، وقبل
سورة الزخرف، وهي السورة الثانية من الحواميم السبع بعد
سورة غافر، وهي مكية بالإجماع، وعدد آياتها أربع وخمسون آية.
تسميتها وما جاء فيها
الاسم المشهور لها هو (سورة فصلت)؛ لوقوع كلمة {كتاب
فصلت آياته} (فصلت:3) في أولها، فعُرفت بها؛ وقد يطلق عليها (حم السجدة) تمييزاً لها من السور المفتتحة بحروف {حم}.
وقد روى ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: (اجتمعت قريش يوماً، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة، فقال: يا محمد! أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبتها، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقول بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى أيها الرجل، إن كان إنما بك الباءة -أي تريد الزواج- فاختر أي نساء قريش، ونزوجك عشراً، وإن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرغت؟ قال: نعم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تنزيل من الرحمن الرحيم} حتى بلغ {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} (فصلت:3) فقال عتبة: حسبك حسبك ما عندك غير هذا؟ قال: لا، فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه به إلا وقد كلمته به، فقالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم، قال: لا والذي نصبها بينة، ما فهمت شيئاً مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك! يكلمك رجل بالعربية، لا تدري ما قال؟، قال: لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة).
مقاصدها
ذكر أهل العلم والتفسير ما تضمنته هذه السورة من
مقاصد ومن ذلك :
- قول ابن الزبير في "مراصده": "مقصودها: الإعلام بأن العلم إنما هو ما اختاره المحيط بكل شيء قدره، وعلم من علمه لعباده، فشرعه لهم، فجاءتهم به عنه رسله. وذلك العلم هو الحامل على الإيمان بالله، والاستقامة على طاعته. المقترن بهما، النافع في وقت الشدائد"، قلت: هذا مستفاد من قوله سبحانه في السورة: {إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} (فصلت:47).
- قول الفيروز آبادي في "بصائره": "مقصود السورة: بيان شرف القرآن، وإعراض الكفار من قبوله، وكيفية تخليق الأرض والسماء، والإشارة إلى إهلاك عاد وثمود، وشهادة الجوارح على العاصين في القيامة، وعجز الكفار في سجن جهنم، وبشارة المؤمنين بالخلود في الجنان، والاحتراز من نزغات الشيطان، والحجة والبرهان على وحدانية الرحمن، وبيان شرف القرآن، والنفع والضر، والإساءة، والإحسان، وجزع الكفار عند الابتلاء والامتحان، وإظهار الآيات الدالة على الذات والصفات الحسان، وإحاطة علم الله بكل شيء من الإسرار والإعلان، بقوله: {ألا إنه بكل شيء محيط} (فصلت:54)".
- وقال سيد في "ظلاله": "قضية العقيدة بحقائقها الأساسية هي التي تعالجها هذه السورة...الألوهية الواحدة. والحياة الآخرة. والوحي بالرسالة. يضاف إليها طريقة الدعوة إلى الله وخلق الداعية. وكل ما في السورة هو شرح لهذه الحقائق، واستدلال عليها. وعرض لآيات الله في الأنفس والآفاق، وتحذير من التكذيب بها، وتذكير بمصارع المكذبين في الأجيال السابقة، وعرض لمشاهد المكذبين يوم القيامة. وبيان أن المكذبين من الجن والإنس هم وحدهم الذين لا يُسلِّمون بهذه الحقائق، ولا يستسلمون لله وحده، بينما السماء والأرض والشمس والقمر والملائكة...كلهم يسجدون لله، ويخشعون، ويُسَلِّمون، ويستسلمون.
ويجري سياق السورة بموضوعاتها ومؤثراتها في شوطين اثنين:
الشوط الأول: يبدأ بالآيات التي تتحدث عن تنزيل الكتاب وطبيعته وموقف المشركين منه. وتليها قصة خلق السماء والأرض. فقصة عاد وثمود. فمشهدهم في الآخرة، تشهد عليهم الأسماع والأبصار والجلود. ومن هنا يرتد إلى الحديث عنهم في الدنيا، وكيف ضلوا هذا الضلال، فيذكر أن الله قيض لهم قرناء سوء من الجن والإنس، يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم. ومن آثار هذا قولهم: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} (فصلت:26). ثم موقفهم يوم القيامة حانقين على هؤلاء الذين خدعوهم من قرناء الجن والإنس!
وعلى الضفة الأخرى {الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} (فصلت:30). وهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة -لا قرناء السوء- يطمئنونهم، ويبشرونهم ويعلنون ولايتهم لهم في الدنيا والآخرة. ويلي هذا ما جاء عن الدعوة والداعية.
الشوط الثاني: يتحدث عن آيات الله من الليل والنهار والشمس والقمر والملائكة العابدة، والأرض الخاشعة، والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات. ويلي هذا الحديث عن الذين يلحدون في آيات الله وفي كتابه، وهنا يجيء ذلك الحديث عن هذا الكتاب. ويشار إلى كتاب موسى عليه السلام، واختلاف قومه فيه. ويوكل أمرهم إلى الله بعد الأجل المضروب. وحديث عن الساعة واختصاص علم الله بها، وعلمه بما تكنه الأكمام من ثمرات، وما تكنه الأرحام من أنسال. ويعرض مشهد الكافرين وهم يسألون عن الشركاء. يلي هذا الحديث عن النفس البشرية عارية من أستارها. ومع حرص الإنسان على نفسه هكذا، فإنه لا يحتاط لها فيكذب ويكفر، غير محتاط لما يعقب هذا التكذيب من دمار وعذاب.
وتختم السورة بوعد من الله أن يكشف للناس عن آياته في الأنفس والآفاق حتى يتبينوا، ويثقوا: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} (فصلت:53)".
- وقال ابن عاشور في "تحريره": "أغراض السورة: التنويه بالقرآن، والإشارة إلى عجزهم عن معارضته، وذكر هديه، وأنه معصوم من أن يتطرقه الباطل، وتأييده بما أنزل إلى الرسل من قبل الإسلام، وتلقي المشركين له بالإعراض وصم الآذان، وإبطال مطاعن المشركين فيه، وتذكيرهم بأن القرآن نزل بلغتهم، فلا عذر لهم أصلاً في عدم انتفاعهم بهديه. وزجر المشركين وتوبيخهم على كفرهم بخالق السماوات والأرض مع بيان ما في خلقها من الدلائل على تفرده بالإلهية. وإنذارهم بما حل بالأمم المكذبة من عذاب الدنيا، ووعيدهم بعذاب الآخرة وشهادة سمعهم وأبصارهم وأجسادهم عليهم، وتحذيرهم من القرناء المزينين لهم الكفر من الشياطين والناس، وأنهم سيندمون يوم القيامة على اتباعهم في الدنيا، وقوبل ذلك بما للموحدين من الكرامة عند الله. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفعهم بالتي هي أحسن، وبالصبر على جفوتهم، وأن يستعيذ بالله من الشيطان. وذكرت دلائل تفرد الله بخلق المخلوقات العظيمة كالشمس والقمر. ودلائل إمكان البعث، وأنه واقع لا محالة، ولا يعلم وقته إلا الله تعالى. وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بتأييد الله إياهم بتنزل الملائكة بالوحي، وبالبشارة للمؤمنين. وتخلل ذلك أمثال مختلفة في ابتداء خلق العوالم، وعِبَرٌ في تقلبات أهل الشرك، والتنويه بإيتاء الزكاة".