بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، ووجه الأرض مقفر مظلم، قد استوجب أهلها المقت من الله تعالى؛ كما جاء في "صحيح مسلم": "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم جميعاً عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب". يعني من اليهود والنصارى الذين كانوا متناثرين في الصوامع وزوايا الأديرة متمسكين بما أنزل على أنبيائهم، أما من عداهم فقد أصبحوا أهلاً للمقت والسخط .. فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليرفع عنهم مقته وغضبه بهذا الرسول وبما أنزل معه؛ فكان عليه السلام رحمة مهداة للبشرية، ونعمة مسداة لكل البرية.
وكان من مقاصد إرسال النبي عليه الصلاة والسلام ما ذكر بعضه ربنا تعالى في سورة الفتح بقوله: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله
وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا} (الفتح:8-9). أي شاهداً على هذه الأمة من أطاعك ومن عصاك، ومبشراً بالجنة لمن أطاعك، ونذيراً بالنار لمن عصاك.
{لتؤمنوا بالله ورسوله} وهو مقصد الرسالة الأعظم الإيمان بالله وبما جاء عن الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وتعزروه} التعزير هو التعظيم والتفخيم والإكبار. وقال شيخ الإسلام: "التعزير: اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه".
{وتوقروه} التوقير هو الاحترام والإجلال. قال ابن كثير: "التوقير: هو الاحترام، والإجلال، والإعظام".
فمن مقاصد بعثته عليه السلام أن يكون محلاً للتوقير والتعظيم والإجلال والإكبار؛ لأنه يستحق الخير كله فهو مفتاح الخيرات في الدنيا والآخرة. فما من خير أصاب الناس في دنياهم إلا ببركة بعثته، وما من خير أصاب آخرتهم إلا بفضل اتباعه والإيمان به.
فحق الرسول على أمته أن تعظمه، أن توقره، أن تجلُّه، أن تعظم شأنه بكل صور التعظيم المستحقة له.
توقير النبي في القرآن
من أراد أن يعرف قدر الرسول عليه الصلاة والسلام فليقرأ القرآن، ولينظر كيف عظم الله نبيه فيه وعزره. كيف خاطب الله فيه نبيه. لم يخاطب الله نبيه ولا مرة واحدة باسمه المجرد كما خاطب نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وداود وزكريا وغيرهم من الأنبياء.. لا يخاطبه إلا بـ {يا أيها النبي} {يا أيها الرسول}.
وما أقسم الله في قرآنه بحياة أحد من خلقه إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} (الحجر:72).
يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "ما خلق الله وما ذَرَأ وما بَرَأ نفسًا أكرمَ عليه من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وما سمعتُ الله أقسمَ بحياة أحدٍ غيره".
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وأقسمَ بحياته، وفي هذا تشريفٌ عظيمٌ، ومقامٌ رفيعٌ، وجاهٌ عريض".
أخبر تعالى أنه رفع له ذكره {ورفعنا لك ذكرك} (الشرح:4). يقول مجاهد: "فلا يذكر الله إلا وذكر معه محمد صلوات الله عليه وسلامه".
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشـــق لــه من إسمــه ليجــلـه فـذو العـرش محمود وهذا محمد
لا يدخل أحد الإسلام إلا إذا شهد: أن محمدا رسول الله، مع شهادته ألا إله إلا الله.
لا تصح خطبة خطيب حتى يقول في خطبته: "أشهد أن محمدا رسول الله".
لا يصح أذان مؤذن حتى يقول في أذانه: "أشهد أن محمدا رسول الله".
لا تصح صلاة مصل حتى يقول في تشهده: "أشهد أن محمدا رسول الله".
أي إعلاء للذكر أعلى من هذا؟ وأي رفع للقدر أرفع من هذا؟
فرسول الله أهل أن يوقر ويفخم ويعظم
دَعْ مَـا ادَّعَتْهُ النَّصَــارَى فـيِ نَـبِيِّهِمِ .. وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًــا فِيهِ وَاحْتَكِمِ
وَانْسُبْ إِلىَ ذَاتِهِ مَا شِئْتَ مِنْ شَرَفٍ .. وَانْسُبْ إِلىَ قَدْرُهُ مَا شِئْتَ مِنْ عِظَمِ
فَـإِنَّ فَضْـــلَ رَسُــولِ اللهِ لـَيْــسَ لــَهُ .. حَـــدٌّ فَـيُــعْــرِبَ عَــنْهُ نَاطِــقٌ بـفـم
الصحابة وتعظيم نبيهم
ولقد كان للصحابة رضوان الله عليهم النصيب الأوفر والأوفى من توقيره وتعظيمه مما سبقوا به غيرهم ولم يدركهم مَن بعدهم. حتى استحقوا أن يكونوا خير القرون على الإطلاق [خير القرون قرني](البخاري).
وقد بلغ بهم توقيره وتعظيمه مبلغا شمل كل ما يتعلق به حتى بلغ بهم تعظيم مسماه.. فقد روى البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ : [وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلاَمٌ فَسَمَّاهُ القَاسِمَ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ لاَ نَكْنِيكَ أَبَا القَاسِمِ، وَلاَ نُنْعِمُكَ عَيْنًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ لِي غُلاَمٌ، فَسَمَّيْتُهُ القَاسِمَ فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: لاَ نَكْنِيكَ أَبَا القَاسِمِ، وَلاَ نُنْعِمُكَ عَيْنًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحْسَنَتِ الأَنْصَارُ، سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي].. وقد حملها أكثر العلماء على حياته صلى الله عليه وسلم.
والشاهد هنا كيف أنهم كانوا يعظمون اسم نبيهم أن يتسمى به غيره، فإذا كان هذا مع الاسم فكيف سيكون الحال مع الشخص.
كلنا يعرف قصة أبي بكر في صحيح البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن أناسا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه يصلح بينهم فحضرت الصلاة ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء بلال فأذن بلال بالصلاة ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إلى أبي بكر فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم حبس وقد حضرت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس فقال نعم إن شئت فأقام الصلاة فتقدم أبو بكر ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف حتى قام في الصف الأول فأخذ الناس بالتصفيح حتى أكثروا وكان أبو بكر لا يكاد يلتفت في الصلاة فالتفت فإذا هو بالنبي صلى الله عليه وسلم وراءه فأشار إليه بيده فأمره أن يصلي كما هو فرفع أبو بكر يده فحمد الله وأثنى عليه ثم رجع القهقرى وراءه حتى دخل في الصف وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس فلما فرغ أقبل على الناس فقال يا أيها الناس ما لكم إذا نابكم شيء في صلاتكم أخذتم بالتصفيح إنما التصفيح للنساء من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله فإنه لا يسمعه أحد إلا التفت يا أبا بكر ما منعك حين أشرت إليك لم تصل بالناس فقال ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول من أنا وما أنا حتى أصلي إماما وخلفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت حياته كلها هكذا تعظيما لرسول الله على قربه منه ومحبته له ومقامه عنده.. حتى بعد موته لما ولي الخلافة وأراد أن يخطب الناس ما صعد إلا درجتين من المنبر ولم يصعد الثالثة التي كان يخطب عليها النبي صلى الله عليه وسلم إجلالا له أن يقف مكانه.
لما زار أبو سفيان ابنته أم حبيبة رضي الله عنها في المدينة، ودخل عليها بيتها، ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فطوته، فقال: يا بنية! ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أو رغبت به عني؟ فقالت: “هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه. "رواه الخطيب".
ولما نزل قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}(الحجرات)، قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمِع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. يعني يطلب منه أن يرفع صوته. وكان ثابت بن قيس جهوري الصوت يرفع صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم فجلس في بيته منكسا رأسه يرى أنه من أهل النار بسبب ذلك، حتى بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
ومن شدة حرص الصحابة على إكرامه وتجنب إيذائه، قال أنس بن مالك: “إن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافر”.
وقد بلغ بهم التوقير والتعظيم والإجلال أنهم كانوا لا يملؤون عيونهم من النظر إليه، حتى المتأخرين في الإسلام كعمرو بن العاص ـ الذي أسلم في أوائل السنة الثامنة وعاش مع النبي قرابة الثلاث أو أربع سنوات ـ يقول عند موته رضي الله عنه: "وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه"(رواه مسلم).
كان شأنهم في توقيره أوضح وأظهر من أن يستدل عليه، وأجمل من وصف شأنهم في ذلك عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه حين فاوض النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، فلما رجع إلى قريش قال: "أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيت ملِكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحابُ محمدٍ محمداً، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون النظر إليه تعظيما له"(البخاري).
هذه هي الأمة التي قام عليها الإسلام أول ما قام، أمة عظمت الرسول فنالوا الفلاح الذي وعدهم الله به في سورة الأعراف {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
فإذا أردنا أن نفوز الفوز الذي فازوا فعلينا أن نوقر النبي صلى الله عليه وسلم كما وقروه.. فصلى الله على نبيه الكريم، والحمد لله رب العالمين