الإعلام وما أدراك ما الإعلام.. القوة المؤثرة الأولى في المجتمعات في كل بلاد العالم، لم يعد يخفى على أحد مكانه ومقامه وعظيم أثره في كل الأفراد وعلى كل المستويات.. خصوصا بعد التطورات الهائلة والنقلات الغير مسبوقة وبعدما أصبح في يد كل أحد.
كل دول العالم أدركت الدور الإعلامي الرهيب، وبالتالي وجهت اهتمامها لاستغلال هذه القوة الناعمة لما يخدم هويتها ومنظومتها الثقافية ونظرتها إلى الحياة وتنقلها إلى بقية العالم.
كنا نتمنى أن يكون
إعلامنا العربي كذلك على قدر هذه المسؤولية العظيمة، وأن يضطلع بدوره المنوط به، ويأخذ مكانه اللائق به، ليؤدي دوره الذي كان ينتظر منه:
كنا نتمنى أن يكون
إعلامنا نافعا ومفيدٌا يُظهِر أصالتنا وتقاليدنا، وما يميِّز المسلمين والعرب عن غيرهم في كل صغيرة وكبيرة؛ من الملبس، والمطعم، إلى كبريات المظاهر الثقافية، والفنية، والأدبية.
كان المفترض في أعلامنا أن يعلمنا الصدق، والأمانة، ومكارم الأخلاق، ويُظهِر الشجاعة، والحَمِيَّة العربية، والكرم، والجود.
كنا نطمع من
إعلامنا أن يُظهِر الرجل العربي الوقور المتَّزِن، فصيحَ اللسان، نقي الوجدان، المهموم بشؤون أمته، ودينه ووطنه.
وأن يُظهِر المرأة العربية، المحتشمة الحَيِيَّة، الذكية المتبعِّلة، العامر قلبُها بالرضا، والمزدهر بيتُها بالشكر، والذرية الصالحة.
كنا نأمل أن ينشر قيم الخير والمبادئ، وأن يقزم المساوئ ويداريها، ويعظِّم المحاسنَ وينميها، لا تسمع فيه جدالاً ولا خصامًا، ولا كلامًا يخدش المروءة والحشمة، مواضيعُه راقية، وحواراتُه عالية.
كنا نرجو من
إعلامنا ـ وهو في بلاد المسلمين ـ أن يكرم شهر رمضان، ويعظم حُرْمته أيما تعظيم، القرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار، ومدارسات ومذاكرات، ونفحات من التدبر والتفكر، حاشاك أن ترى برنامجًا هابطًا، أو مسلسلاً ساقطًا، أو تحليلات فلسفية و"سياسية" مدمرة للفطرة والرأي السديد.
كنا نعتقد أن يعتني بالشباب العربي عناية فائقة؛ يقف على صلاتهم، وفقههم، وحسن سلوكهم، ومنفعتهم العلمية الطلائعية، ويسعى في حل مشاكلهم المتراكمة والمتراكبة، ويناقش تطلعاتهم، ويوجه عقولهم وأفكارهم، ويحثهم على التنافس في خدمة الوطن والدين.
كنا نتمنى أن يكون
إعلامنا نافعا ومفيدا، وقويا يرعب أعداءنا، ويمنعهم متعة النهار، وراحة الليل، يخافون تأثيره، وتوجيهه، وقوة بلاغه؛ لإنه إعلام يجمع الكلمة، ويقوي العزيمة، وينبه على الخلل، ويحذِّر من الزلل، ويثمن العمل الصالح، ويقدم الأكْفاء والأبطال والعلماء قدوةً وأسوة.
كنا نأمل كل هذا ونتمناه ونرجوه ونتطلع إليه.. لكن للأسف الشديد فإن
إعلامنا لم يكن على مستوى تطلعاتنا في غالبه؛ فهو في الحقيقة صورة باهتة وهزيلة جدًّا، في كل فروعه وأدواته قنوات تلفازية، وإذاعية، ومجلات، ومواقع إلكترونية، وصحافة ورقية، وبرامج وغيرها.. نعم قد تكون كثيرة العدد لكنها محدودة في تأثيرها الحاسم والفعال، ودورها الإيجابي قاصر وضعيف جدًّا، وهي للأسف الشديد تابعة للإعلام المناهض والمعادي، وبوق لكل ما يقدم عند الآخرين.
إعلامنا الاجتماعي
من الملاحظ أيضًا أن الإعلام العربي الاجتماعي - "الدراما والبرامج الترفيهية" - يعاني نقصًا واضحًا في الآليات الفنية البحتة: الحبك، والإخراج، والسيناريو، والمونتاج، وغيرها من أسس الإنتاج الفني الراقي، كلها ما زالت أقل من المطلوب، خصوصا على مستوى لغة الخطاب "السيناريو" فإنها مركب نقَّال، يمكنه أن ينقُل العديد من الأشياء: الكلمات، المعاني، المفاهيم العلمية، وينقل أيضًا النظام الثقافي والاجتماعي والفكري؛ للتأثير على المظاهر التي نسميها عادات، وتقاليدَ، وأفكارًا عامة وجمعية حتى تنزلق الفكرة إلى الذهن البشري ليطبع فيه ما يريده السيناريست أو كاتب السيناريو، ومصدر العمل لإعادة تشكيل البِنية الفكرية والثقافية ومجموعة العادات السلوكية فيرسخها في اللاوعي الجمعي؛ لتطفو تدريجيًّا على الوعي والسلوك، وتصبح عاداتٍ متأصلةً.
أفكار دخيلة ومفاهيم مرفوضة
لقد تابعت العديد من البرامج الدرامية المدبلجة، فلاحظت أن هذه البرامج عززت - بشكل خطير جدًّا - مجموعة من السلوكيات والانفعالات، لم تكن معهودة في بيئتنا العربية أبدًا:
• سلوك الشكوى، وقلة الشكر، والتحسر المبالَغ فيه، لأتفه الأسباب: تابعت مسلسلاً دراميًّا تركيًّا، شغل الصغار قبل الكبار، فأحصيت حوالي 50 ℅ من وقته: نحيبًا، وبكاءً، وشكوى، ولطمًا؛ للأسباب التالية على الترتيب:
• البطلة لم يكلِّمها "حبيبها" في التليفون، كعادته (عادته أن يطول ويشرح ويملح، فأصبح مقتصدًا وشحيحًا)!
• البطلة خائفة من أن تعرف عائلتها بالأمر الذي وقع! (الزنا).
• الأم تتوجَّس خِيفة من أن يكتشف الأب أنها تتستر على فعلة ابنتها (فضيحتها).
• أهم من ذلك - في رأيي، وهو خطير جدًّا -ردة فعل الأب عند علمه بالأمر، تحاول هذه البرامج أن تسوق الهدوء، والتأفف، والسقوط على الأرض، كصورة نمطية مخزية جدًّا للأب العصري الحكيم.
وأهم من هذا وذاك: علاج المشكلة:
أولاً: لا أحد ينطق بكلمة (فاحشة)، (معصية)، (فعلة شنيعة)، وإنما الكل يستعمل كلمة (غلطة)، والندم ليس خوفًا من الله وعقابه، بل هو خوف من كلام الناس، أو خوف من تحمل مسؤولية الطفل الذي سيولد؛ (مفهوم الإيمان، والحساب، والعقاب، لا وجود له إطلاقًا في هذه الأعمال).
باختصار شديد:
إن اللغة التي ينقل بواسطتها نظام المفاهيم، والعادات، والانفعالات؛ هي عربية مهجَّنة عن التركية مثلاً، أو الإسبانية؛ فيكون تأثيرها في البداية الانبهار، و"الصعقة الثقافية"، التي تشعر المرأة العربية بأنها مهانة، ومزدراة، ومفتقرة إلى "الحب الرومانسي"، وتُشعِر الرجل العربي بأنه مغبون، ومدفون، وغير متطلع إلى هذا الحس الأنثوي المتدفق!
وتتحول هذه الأفكار إلى أنماط وبِنًى ثابتة لا يقبل بها المجتمع بديلاً، وهكذا يُقضَى على الحياء، والحشمة، والعفة العربية الراقية، وتستبدل بنموذج ممسوخ، هابط، يثير الاشمئزاز.
أسأل الله - تعالى - أن يعين الأسر المسلمة على مراقبة الله - تعالى - في الإعلام، الذي يعلِّم ويربي أبناءنا، وأن يعقدوا العزم على مساندة ومؤازرة كل مبادرة للرقي بالإعلام النافع، والبرامج المفيدة الهادفة، والحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أمة خير البرايا والأنام