الحرية معنى عظيم وهدف نبيل تسعى إليه الأمم في القديم والحديث، وتتباهى به الدول أن لها منها الحظ الأوفر والمكان الأفسح، وما نزلت الأديان وأرسلت الرسل إلا لإخراج الناس من عبودية الخلق إلى عبودية الخالق وحده، ولطيب عبق الحرية ادعاها الجميع، وهم في ذلك بين صادق وكاذب، فأما الصادق فقد أخذها بحقها وحسابه على الله تعالى، وأما الكاذب فتزين بها في الظاهر وهو من أبعد الناس عنها واقعا وسلوكا.
ومن هذا المنطلق ينبغي أن نعلم أنه ليس كل مدع للحرية قد أصابها، وليس كل من تسربل بها فهي رداؤه الحقيقي، بل لابد من وزن الأقوال والأفعال بميزان الحق والإنصاف، وعدم الاغترار بالشعارات والهتافات والدعاوى، فميزان الحق لا يحابي أحدا، وليس كل من طلب خيرا ناله.
الإعلام الحر
«الإعلام الحر».. أحد القضايا المعاصرة الشائكة، خاصة أنها دعوى لكل من يعمل في الحقل الإعلامي، حتى الروافد الإعلامية الإباحية والإلحادية، لأن الجميع يرى الحرية من زاويته ورؤيته الخاصة لمفهوم الحرية، لكن رؤيتنا الإسلامية للحرية وغيرها من المفاهيم والسلوكيات تنبثق من أصلين عظيمين هما الكتاب والسنة، فهما المقياس الجليل والميزان القويم.
فليس من الحرية إخضاع ثوابت هذا الدين للاستبْيان واستطلاع الرأي، كما يحدث في بعض القنوات الفضائية أو المواقع الالكترونية أو الصحف.. حيث تطرح أحد ثوابت الدين للنقاش، من أمثال: ما رأيك في قتل المرتد؟ هل توافق على منع تقديم الخمور للسائحين؟ هل يمكن أن تجبر زوجتك أو ابنتك على ارتداء الحجاب؟!!. وأمثال هذه التساؤلات التي هي من ثوابت الدين ولا مجال للرأي فيها، أو حتى فتح باب للنقاش والحوار بين مَن يعلم ومَن لا يعلم، لأن الإسلام بالأصل هو مرجع لكلّ نقاش وكلّ خلاف، كما قال تعالى مبينًا ذلك في كتابه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[الشورى:10]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النساء:59].
ثمَّ إنَّ هذا تعدٍّ على حكم الله تعالى ورسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}[الأحزاب:36]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[النور:51].
ثمَّ إنَّه طريق إلى الفتنة، وخَلخَلة صفوفِ الأمّة، وإيجاد الفرقةِ بين أبنائها، وإحداثِ ما يقطَع صلةَ الأمّةِ حاضرَها بماضيها، ويجعَلها متنكِّرةً لماضيها مخالِفَة له.
حرية مسيئة
وتحت مسمى هذه "الحرية الفنية" تخرج أعمال تنافي تماما قيمنا الأخلاقية وتعاليمنا الدينية، فقد ظهرت أفلام كثيرة مسيئة اخترت منها اثنين: يحكي أحدهما قصة فتاة محجبة تعطل بها الأسانسير، ثم تتلقى مكالمة تلفونية، وتتطرق بعد فترة إلى مسائل ساخنة، وينتهي الأمر بأن تخلع تلك الفتاة حجابها، وتتنكر ليدينها.
أما الفيلم الثاني فهو أشبه بالفيلم التسجيلي (15 دقيقة تقريبا)، لا يحكي قصة وإنما يصور فتاة محجبة (لا أدري لماذا الإصرار على المحجبات، تركب مع شاب في أتوبيس ويصور مشاهد مبتذلة بين الفتاة المحجبة والشاب داخل أتوبيس الذي يجوب شوارع القاهرة!!
ومن الوهلة الأولى تتيقن سعى الفيلمين لتشويه صورة المحجبات، ومحاولة الطعن فيهن من خلا ما يسمونه إظهار المشاعر الجنسية المكبوتة لدى (المحجبات)، وسهولة تخليهن عن الحجاب وربما عن العفة مع أول نداء للجنس، فإن العلاقة في الفيلمين كانتا مصادفة بحتة، سارعت فيها الفتاتان المحجبتان بالتخلي عن حجابهن بهذه السهولة، والمقصد واضح وهو الانتقاص من المحجبات وإظهارهن في أقبح صورة.
وفيلم آخر في بلد مسلم آخر (وأنا أتحفظ عن ذكر الأسماء)، كان أشدها قذارة وإثارة للجدل، ليس في الأوساط الدينية والمجتمعية، ولكن أيضاً في الوسط الفني والنقدي المغربي، وكذلك في الوسط السياسي.
ويحكي الفيلم قصة حب ساخنة جداً بين فتاة مسلمة متحررة للغاية من الطبقة الراقية في بلدها وبين شاب "يهودي"، لكن الأحكام الإسلامية والتقاليد في هذا البلد تحول دون زواجهما، رغم العلاقة غير الشرعية التي نشأت بينهما، وينتهي الفيلم بموت العشيق في حادث سير ليكون ضحية التقاليد التي حالت بين زواج مسلمة بيهودي.
وما طرحه الفيلم من أحداث درامية وتوظيف للسيناريو والمشاهد، يشير إلى معانٍ أخرى، ويمكن أن نركزها في النقاط التالية:
دارت معظم مشاهد الفيلم أثناء الليل، وفي شهر رمضان على وجه التحديد!! وكان الأذان للصلاة خلفية حاضرة في بعض المشاهد، التي تصور حالة المجون الموجودة في الملاهي، بل وإظهار بعض العاشقين في السيارات في أوضاع مخلة، وكأنها إشارة إلى وجود حالة من الانفصام بين القيم والرغبات في المجتمع، وحالة من البرود الشديد تجاه القيم الإسلامية، حتى إن العشيقة المسلمة (البطلة) كانت تفطر في رمضان، وكانت تختار وقت الإفطار لكي تذهب مع عشيقها.. وكأنها تقول: "إن المسلمين يشغلهم إشباع بطونهم وقت الإفطار في رمضان، حتى إنهم يغفلون عن تحسس بناتهم ولا يدرون بخروجهن".
ناهيك عن إظهار أبناء هذا البلد المسلم على أنهم في حالة حرب نفسية بين رغباتهم وأهوائهم وبين تقاليدهم وأخلاقهم الاجتماعية، وبين تعاليمهم الدينية. في الوقت الذي يظهر فيه اليهودي بصورة إيجابية عالية للغاية.
فأي حرية تلك التي يحاول هؤلاء من خلالها هدم كل جميل في بلادنا، وتشويه كل طيب في ديننا، ويدعون من خلالها إلى التفلت والانحلال والتفسخ ونشر الفواحش في مجتمعات المسلمين.
المناعة لا المنع
ومن غريب التعليقات على أمثال هذه الحرية الإعلامية الشوهاء رفع البعض شعار «ثقافة المناعة، لا سياسة المنع»، وهذا قول حق أريد به باطل، فنحنُ لا نقول بإهمال المناعة، وتحصينِ العقول، وزيادةِ ترسانة الوعي لدى الفرد، وتدعيم الحصانة الإعلامية لدى المتلقي؛ ولكنَّنا ضد تأجيج الشهوات، وقذف المجتمع بالباطل، والإغارة السافرة على ثوابت الدين، والدعوة للمجون والحرية السافرة التي همّ أصحابها الظهور أمام الغير من المستغْربين والغرب أنَّه انفتاحي مع العصر، مرن السّلوك، عقلاني النَّظرة، لا يعارض الغير وإن كان كافرًا، ويقلِّده وإن كان ملحدًا أو مشركًا.
أما من يدعو إلى «حرية منضبطة» فأي ضابط يمكن أن يضبط الحرية، خاصة وأن الليبرالي له ضوابطه، والشيوعي له ضوابطه، بل والملحد له ضوابطه، ولكن الأحسن أن يقال: «حرية منضبطة بضابط الشرع»، حرية ربانية الضابط، لأنه لا أصدق ولا أطهر من ضابط الوحي {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [النساء:122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً}[النساء:87].
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، ولذلك يقع العبء الأكبر على رجال
الإعلام الإسلامي ليقدموا للناس إعلاما حرا بمعنى الكلمة، إعلاما يأخذ بالفضائل ويطرح الرذائل، ويقود الناس للتي هي أقوم، فما أنبلها من مهمة، وما أعظمها من رسالة.