يعتمد
علماء الحديث على عدد من القرائن للترجيح بين الروايات عند اختلافها، فيرجحون بسبب هذه القرائن أحد الوجوه أو الروايات على غيرها؛ وهذه القرائن بعضها يتعلق بالإسناد، وبعضها يتعلق بالمتن، وليس من الضرورة دائماً أن تدلَّ هذه القرائن على علة الاختلاف، وحول هذا المعنى يقول الحافظ ابن رجب: "معرفة مراتب الثقات وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف، إما في الإسناد، وإما في الوصل والإرسال، وإما في الوقف والرفع". وتعد
قرائن الترجيح من أهم وسائل الكشف عن العلل القادحة في
الحديث عند الاختلاف بين الرواة.
ولا يجيد الخوض في هذا الفن إلا من كان عارفاً بأحوال الرواة ومراتبهم، وكان مطلعاً على الأسانيد والروايات، كـ ابن المديني، وأحمد، والدارقطني، وأمثالهم، وهذه القرائن هي أكثر من أن تحصى، وليس لها ضابط يضطها، قال ابن رجب: "ولهم -أي الأئمة النقَّاد- في كل حديثٍ نقدٌ خاص، وليس لذلك ضابط يضبطه"، وقال الصنعاني: "وجوه
الترجيح بين المتماثلين عدداً ووصفاً كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها". ولعل أسهل الطرق للتوصل إلى العلة القادحة ما عبر عنه ابن المديني حين قال: "الباب إذا لم تُجمَع طرقه، لم يتبيَّن خطؤه". فكل حديثٍ مروي له
قرائن تخصه بعينه، وهي مقصورة عليه، لا يصلح تطبيقُها على غيره، ومن هذه القرائن: الحفظ، والإتقان، وكثرة الرواة، والعلمُ بالأثبت في الثقات، والأقدم في الصحبة. وقال الصنعاني: "وإن لم يتساوَوا في الثقة، فالحكم للثقة، ويكون
الترجيح بمراتب الثقات:
الترجيح بطول الصحبة، والحفظ، والإتقان، والضبط، واعتبار طبقات الرواة، ومعرفة البلدان". قال أبو حاتم: "وأهل الشام أضبط لحديثهم من الغرباء" والاختلاف في الحالات التي سَمِعوا فيها الحديث، فبعضهم سَمِعه في مجلس واحد، وبعضهم في مجالس عدة، فيقدَّم مَن سمعه في مجالس متعددة.
ويمكن تقسيم
قرائن الترجيح إلى قسمين: قسم يتعلق بالإسناد، وقسم يتعلق بالمتن، ومن أهم القرائن التي تتعلق بالإسناد:
القرينة الأولى: (التفرد): وهي من أهم
قرائن الترجيح، وأهم الدلائل على وجود العلة عند الأئمة المتقدمين، ومن أهميتها أن الإمام البخاري كان من أكثر الحفاظ تعليلاً بها، حيث كان يكثر أن يقول في كتابه التاريخ الكبير: "لا يُتابع عليه". والتفرُّد ليس علة في حدِّ ذاته، وفي هذا يقول الحافظ ابن رجب: "أما أكثر الحفَّاظ المتقدِّمين، فإنهم يقولون في
الحديث إذا تفرد به واحد، وإن لم يروِ الثقات خلافه: إنه لا يُتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه، واشتهرت عدالته وحديثه؛ كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقدٌ خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه". ومن
قرائن الإسناد: رواية الراوي عن بعض أهل بيته كرواية الأبناء عن الآباء، وفيها مصنفات مشهورة، لأن رواية الرواي عن أحد من أهل بيته تعد قرينة مرجِّحة للقبول، كما قال الحافظ ابن حجر: "ولا شك أن آلَ الرجل أخصُّ به من غيرهم".
والتعليل بالتفرد يختلف من حالة لأخرى، فتفرد الثقة يختلف عن تفرد غير الثقة، ومن الأمثلة على تفرَّد الثقات حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، قال ابن الصلاح: "فإنه حديث فردٌ، تفرَّد به عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تفرَّد به عن عمر علقمةُ بن وقاص، ثم عن علقمة محمد بن إبراهيم، ثم عنه يحيى بن سعيد، على ما هو الصحيح عند أهل الحديث". ويختلف تفرد الراوي إذا كان إماماً كبيراً مشهوراً كالإمام الزهري ومالك، عن غير المشهور، لأن الإمام المشهور له أصحاب كثيرون يحملون حديثه، ويروون ما تفرد به، فالتفرد بالنسبة للثقة المشهور بالحفظ وقلة الخطأ في مروياته لا تضر، قال الإمام مسلم: "وللزهري نحو من تسعين حديثاً يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد".
القرينة الثانية: (المتابعة): وهي موافقة الراوي برواية
الحديث عن شيخه ومشاركته في الشيخ بنقل
الحديث بلفظه أو معناه. قال ابن الصلاح في مقدمته: "اعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه وحده، بل يكون معدوداً في الضعفاء". وذكر البخاري ومسلم في "صحيحهما" جماعة من الضعفاء في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك؛ ولهذا يقول الدارقطني وغيره: "من الضعفاء فلان يعتبر به، وفلان لا يعتبر به". وقال الحافظ ابن حجر في نزهة النظر: "المتابعة على مراتب: إن حصلت للراوي نفسه فهي التامة، وإن حصلت لشيخه فمن فوقه فهي القاصرة، ويستفاد منها التقوية".
القرينة الثالثة: (عدم ذكر الراوي في كتب الضعفاء): فقد عدّ
علماء الحديث عدم وجود اسم الراوي في كتب الجرح والتعديل مبرراً لقبول روايته، فقالوا: "إن الأئمة الذين صنفوا في الضعفاء كابن عدي وغيره، لو علموا فيه جرحاً لذكروه، فالبراءة في الجرح هي الأصل، ولا يثبت الجرح إلا بجارح، ولذا فإن عدم ذكره يعتبر سكوتاً عنه من باب التعديل الضمني له".
القرينة الرابعة: (سعة حفظ الراوي المختلف عليه): ومعنى ذلك أن يختلف الرواة على راوٍ كثير الرواية واسع الحفظ على وجهين من قبل أصحابه الثقات، فيقبل الوجهان عنه، كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "الزهري صاحب حديث، فيكون
الحديث عنده عن شيخين، ولا يلزم من ذلك اطراده في كل من اختلف عليه في شيخه إلا أن يكون مثل الزهري، في كثرة
الحديث والشيوخ".
القرينة الخامسة: (التصريح بالسماع): وتستخدم هذه القرينة في حديث الراوي المتهم بالتدليس، فإذا صرح بالتحديث في رواية، كان تصريحه قرينة لقبول حديثه ما لم تعارض بقرينة أقوى.
القرينة السادسة: (تخريج الشيخين بهذا الإسناد): فقد أولى
علماء الحديث كتابي البخاري ومسلم عناية فائقة، من حيث دراسة الأسانيد التي اعتمدها الشيخان.
ومن
قرائن الإسناد كذلك، الاعتماد على التاريخ في إثبات السماع، والتلقين، وأن يكون الراوي روى حديثَاً، وبعد البحث في كتبه لم يجدوه فيه.
أما أهم القرائن التي تتعلق بالمتن، فمنها: قرينة تصحيح الحفاظ لإحدى الروايات: إن حفاظ
الحديث المتقدمين، الذين صنفوا الصحيح، كانوا على اطلاع وعلم واسع بعلل
الحديث ورواياته وطرقه، فإذا صححوا حديثاً أو رواية عُدَّ ذلك قرينة من
قرائن قبول الحديث، ويختلف هذا من عالم لآخر، فليس تصحيح ابن حبان كتصحيح البخاري ومسلم. وقرينة أن يكون للحديث شاهد في كتب الصحيح: ومعنى الشاهد هو مشاركة الصحابي لصحابي آخر في رواية حديث ما بلفظه أو بمعناه.
هذه
قرائن مشهورة غالباً ما يقع
الترجيح بسببها، ويخفى أمرها على غير النقَّاد المتمرِّسين، قال الحافظ ابن حجر: "فحديثٌ لم يختلَف فيه على راويه أصلاً، أصح من حديث اختُلِف فيه في الجملة". وقال الحافظ ابن رجب تحت عنوان (قاعدة في تضعيف حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه) قال: وقد ضعَّف الإمام أحمد وأكثر الحفَّاظ أحاديث كثيرة بمثل هذا"، لأن في روايتِه للحديث الذي يخالف رأيه، مظنة لخطأ أتى به، سواء خالفه غيره، أو انفرد به.