ما برح أعداء الإسلام -قديمًا وحديثًا- يتربصون بهذا الدين الدوائر، ويحاولون -ما وسعهم- الطعن به، والتشكيك فيه. وقد دأب علماء هذه الأمة -المتقدمون منهم والمتأخرون- على التصدي لهذه المحاولات التشكيكية، والرد عليها، والكشف عن زيفها وزيغها، والإبانة عن حقيقتها وغايتها، مستهدين في ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} (التوبة:32).
ولعل
القراءات القرآنية كانت من أكثر المجالات وأخصبها للطاعنين بهذا الدين، والمشككين بأمره، وكانت من جملة المداخل التي حاول أعداء هذا الدين الولوج منها، لتحقيق مآربهم، وتنفيذ أغراضهم.
وكان من جملة الشبه التي أثيرت حول
القراءات القرآنية -وهي من الشبه القديمة الحديثة- شبهة تقول: إن اختلاف
القراءات القرآنية يدل على اضطراب في النص القرآني، ويخالف أيضًا ما نص عليه القرآن من عدم وجود اختلاف فيه، كقوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء:82) وقوله كذلك: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} (فصلت:42).
وقد عبَّر ابن قتيبة - قديمًا- عن هذه الشبهة، فقال رحمه الله: "..وكان مما بلغنا عنهم أنهم يحتجون بقوله عز وجل: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وبقوله: { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} وقالوا: وجدنا الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم يختلفون في الحرف...والقراء يختلفون؛ فهذا يرفع ما ينصبه ذاك، وذاك يخفض ما يرفعه هذا، وأنتم تزعمون أن هذا كله كلام رب العالمين، فأي شيء بعد هذا الاختلاف تريدون، وأي باطل بعد هذا الخطأ واللحن تبتغون؟!!
وظاهر مما تقدم أن هذه الشبهة ذات شقين: الأول: يعتبر اختلاف
القراءات اضطراب في نص القرآن. والثاني: يرى أن اختلاف
القراءات يخالف ما أخبر الله به عن كتابه الحكيم، من نفي وجود الاختلاف فيه.
وفي الرد على الشق الأول من هذه الشبهة، نقول: إن معنى الاضطراب في النص: هو وروده على صور مختلفة أو متضاربة، لا يُعرف الصحيح الثابت منها، أما وروده على صور كلها صحيح، فليس في ذلك شيء من الاضطراب.
ثم إن قراءات القرآن المعتمدة، وإن اختلفت في النص الواحد قراءة، غير أنها كلها مقطوع بثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبتت القراءة سنداً ونقلاً، فلا مجال لردها أو إنكارها.
كما أن فيما أخبر به عليه الصلاة والسلام من أن (القرآن نزل على سبعة أحرف) والإذن بقراءته حسب ما تيسر من ذلك، ما يُثبت مشروعية
القراءات القرآنية، وعدم الالتفات إلى قول من قال بخلاف ذلك.
وقد ردَّ ابن حزم رحمه الله على هذه الشبهة، بقوله: "...فليس هذا اختلافًا، بل هو اتفاق منا صحيح؛ لأن تلك الحروف وتلك
القراءات كلها مبلَّغ بنقل الكوافِّ إلى رسول الله صلى الله وسلم أنها نزلت كلها عليه، فأي تلك
القراءات قرآنًا فهي صحيحة، وهي محصورة كلها مضبوطة معلومة، لا زيادة فيها ولا نقص".
فحاصل الرد هنا: أن اختلاف
القراءات ليس من قبيل الاضطراب وعدم الثبات، كما يدعي ذلك الذين في قلوبهم زيغ، والذين يريدون أن يصدوا عن السبيل، بل جميع ذلك حق ويقين ثابت، أعلمنا به الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما الرد على الشق الثاني من هذه الشبهة، فجوابه ما أسلفنا من إخباره صلى الله عليه وسلم (أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ، فاقرؤوا ما تيسر)، وهذا المعنى بلغ مبلغ التواتر في هذه الأمة؛ ووجه دلالته: أن القرآن نزل على سبع لغات من لغات العرب، رحمة ورأفة بهم، إذ لو كلِّفوا بقراءته على لغة واحدة لشق الأمر عليهم، ولَدَخَلَهم من العنت ما جاء الشرع الحكيم لرفعه عنهم؛ ولأجل هذا سأل صلى الله عليه وسلم ربه التخفيف في ذلك فأجابه إليه.
ثم يقال أيضًا: إن الاختلاف -كما يقول أهل العلم- نوعان، اختلاف تغاير وتنوع، واختلاف تباين وتضاد؛ فأما اختلاف التضاد فلا يجوز في القرآن بحال، وهو غير موجود فيه عند التحقيق والتدقيق. وأما اختلاف التغاير والتنوع فهو جائز وواقع، واختلاف
القراءات من هذا الباب. ففيه القراءة بالإمالة والتفخيم، والقراءة بالمد أو القصر، والقراءة بالهمز أو التسهيل، ونحو ذلك من
القراءات الثابتة نقلاً متواترًا، لا شك في صحة ثبوتها. يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى: "ولا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده، بل قد يكون معناها متفقاً أو متقارباً، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: إنما هو كقول أحدكم: أقبل، وهلمَّ، وتعال..".
وبناء على ما تقرر آنفًا، نقول: إن
القراءات القرآنية الثابتة، ولو تغايرت في المعنى واللفظ، فكلها حق باتفاق المسلمين، ويجب الإيمان بها كلها، والعمل على وفقها؛ أما الاختلاف الذي نفاه الله تعالى عن القرآن فهو اختلاف التضاد والتناقض، وشتان ما هما...والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.