تمثل هذه القصة الحلْقة الثانية من حلَقات الحياة في عالم الابتلاء الدنيوي، حيث يكون الحلم الذي يسعى إليه الصادقون هو الثبات حتى الممات، وأبلغ قصة تصور هذه المرحلة هي القصة التي تتكلم عن حياة الكريم بن الكرام –يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
وفي هذه المرحلة من حياته نجد التشابه الكبير بين فتوة
يوسف وشبابه، وبين معظم شباب الدنيا مع اختلاف بعض التفاصيل، والملك الجليل يقول في التنزيل، ما يوقظ إلى أبلغ الدروس والعبر الشبابَ: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111].
إنها الحلْقة الحياتية التي تظهر فيها فتنة النضج الجسدي، وبلوغ الأشد في الفتوة والقوة والثوران الشبابي:
فقد عاش هذا الفتى طفولته بين حنان الأبوة، وآلام الحسد من أقرب الناس؛ إنه الحسد ليس من البعداء البغضاء، بل من الأخوة الأقرباء، يجعل القلوب كالأرض اليباس، وما فعلهم إلا مخالفةٌ لرضا الله ومراده، يتبعون أهواءهم فيظلمون الخلق {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة:90].
لقد عاش طفولته في محنةٍ وإحنةٍ مع أنه الفتى الهمام، والطفل الذي أوتي أجمل أخلاق الوئام، كيف لا وهو الكريم بن الكرام –يوسف
عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- ومحنته مع إخوته في بيتٍ واحدٍ حلقةٌ دنيوية، تتخذ صوراً مختلفةً عند كثير من أَبناء الدنيا، لكنها لا تخرج عن حيز الاختبار ليظهر الأبرار، ويستبين سبيل المجرمين الفجار.
وها هو الآن على مشارف محنةٌ يتعرض لمثلها معظم شباب الدنيا، وهي محنةٌ جارفة لا عاصم فيها من أمر الله إلا من رحم، تذبل عندها الأوراق المخضرة، وتَسْوَدُ الوجوه الناعمة، فكأنها -إن فشلت- موحِشة مغبرة.. إنها محنة التعرض للغواية في جو القصور، والفتنة في ظل «الطبقة الراقية» وما يغشاها من استهتار وفجور...
وتصور هذه القصة جزءاً من عظمة الكريم بن الأكارم
يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وقد تعرض لمحنةٍ مزلزلةٍ عظيمةٍ، هي أعظم
عليه من محنة إخوته، وصبره عليها أعظم أجراً.
ففتنة القصور تدعوه إليها ليترك الصدق والصفاء والإخلاص وزكاة الأنفاس، وفتنة الجب وظلم الدهور تبعده؛ لئلا يكون له اختيار للنجاة إلا الصبر والصدق والإخلاص، فصبره في فتنة القصور أعظم أجراً؛ لأنه صبر اختيارٍ مع وجود الدواعي الكثيرة للوصول إلى النجومية المدعاة في محاكاة حياة الفجار، واتباع نزوات الشباب الأغرار، فإذا هذا الشاب يسطر ملحمة مخضرة الأوراق وارفة الأغصان مضيئة البدور أمام إغراءات العصيان، يقدم فيها محبة الله، فيزداد جمالاً لأنه آثر أن يتحكم بنفسه، ويؤثر رضا الله على ما عداه، فإذا رأيته رأيت معاني الصدق والإيمان ترفل في ثيابه وحلله وبه تستنير وتزدان، مع أنه يعيش في دهاليز مجتمعٍ طالما ملأ النفاق فيه الجباه، إلا أن الله بنعمته اصطفاه، فعاش لربه {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ} [النحل:121]، وأما محنته بإخوته فصبره فيها صبر اضطرار، بمنزلة الأمراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختيار، وليس له ملجأ إلا الصبر عليها، طائعاً فعل ذلك أم كارهاً.
وملخص القصة أن
يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- بقي مكرماً في بيت العزيز، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما جعل الذين يتبعون الشهوات يريدون إغراقه في لهو الأشقياء، فصرف الله عنه برحمته وفضله السوء والفحشاء، وكذلك فعل الله تعالى مع العارفين العاملين، فقد قرر لنا قانون {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22].
والقصة توضح بصورةٍ لا لبس فيها أن القرآن هو المرجع الأعلى في سعادة العالم البشري في كل شيء، حتى في كيفية صياغة الأدب الحقيقي والقصص الواقعي دون هتك للحياء، أو إثارة لغرائز الأبرياء والسفهاء.. إنه القرآن.. البشرية من دونه يتحكم بحياتها المجانين، لكنهم يتقمصون صورة العقلاء والرفعاء، وأفعالهم تورث العالم الشقاء.. إنه القرآن الذي يفصل سبيل السعداء، كما يبين طرق المجرمين {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِين} [يوسف:3].
من أهم خصائص قصة
يوسف –عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وهي خصائص القصة القرآنية:
أولاً: جمال التصوير في هذه القصة يذكر بصفاء القمر المنير:
ترى في هذه القصة الرائعة صدق التصوير، كما ترى رُقِّي التعبير.. مع أن الكلام إنما هو عن هذا النموذج البشري الشاب الخاص بكل واقعيته، وعن تلك اللحظات الخاصة بكل طبيعيتها، إلا أنك ترى الأداء القرآني- الذي ينبغي أن يكون هو النموذج الأعلى للأداء الفني الإسلامي- لم يتخل عن طابعه النظيف مرةً واحدةً، حتى وهو يصور لحظة التعري النفسي والجسدي الكامل بكل اندفاعها وحيوانيتها عند امرأةٍ قاد الشيطان زمامها، وأنساها غضب الله أمامها، وعلى الرغم من كشف إجرامها إلا أنك مع وضوح التصويرترى عظمة التعبير، ونظافة الفكر المستنير على نقيض المستنقع الكريه الذي يتمرغ في وحله كتاب «القصة الواقعية» الذين نُزِعَ عنهم الأدبُ في «القصة الطبيعية» في هذه الأيام، التي صار المعروف فيها منكراً والمنكر معروفاً، وهم يتحججون بحجة الكمال الفني في الأداء!، فيأتون بكل رعناء من القول وفحشاء.
ثانياً: التشويق في القصة القرآنية أسلوبٌ مبتكرٌ لبناء النفس الإنسانية:
في هذه القصة القرآنية نجد الحق في الإخبار والأخبار، كما نجد التشويق في السرد مع ذكر ما يؤدي إلى التذكر والاعتبار على هيئةٍ فريدة لا يجدها المرء إلا في القرآن الكريم، فالنفس بالتشويق المكتنز في كل كلمة من القصة تظل في غاية الاهتمام، والحواس تبقى مشدودةً إلى ذكر بقية الأحداث التفصيلية والكلية التي حدثت لهذا الشاب الكريم بن الكرام –عليهم الصلاة والسلام-.
ثالثاً: التعقيب التزكوي على أحداث القصة يحقق الهدف القلبي والعقلي:
إذ نلحظ أنه ترد التعقيبات على الأحداث المتتالية بأسلوبٍ لا يقطع تسلسلها، بل يزيدها وضوحاً وبياناً، ويجعل السرد فيها كأنه مشاهَدٌ عِياناً، ولا يجعل السرد لمجرد الترفيه والاستمتاع، بل للبناء الإيجابي والتزكية والفائدة والانتفاع؛ ولذا نجد مثلاً أن الله تعالى يعقب على قصة إجرام الذين اتخذوا
يوسف -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- رقيقاً، فيقول سبحانه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف:19]، ويوضح سرَّ الأحداث بعد أن صار ممكناً عند رئيس وزراء مصر، فيقول: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف:21]. ومع أعلى درجات الإثارة في السرد القصصي، نجد التعليق النوراني الذي يكشف بعض أسرار الأحداث غير المتوقعة من الناحية البشرية، فيقول الله تعالى مبيناً سرَّ قوة الثبات العظيمة لهذا الشاب في مواجهة الإغواء والإغراء: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24].
رابعاً: إظهار المفاجآت المباغتة في مكانها المناسب في القصة القرآنية:
لتزيد التشويق، وتجعل متابعة القراءة ألذ من طعم الرحيق، وذلك كظهور القافلة من بعيد.. لإنقاذ ذلك الفتى الكريم الوحيد، أو ظهور زوج
امرأة العزيز.. فجأةً مع احتدام معركة يوسف-عليه السلام- ضد حبائل الشيطان، ويأتي معه الشاهد غير المتوقع مقدمه أيضاً ليظهر
يوسف أنقى من الذهب الإبريز.. وبذا يبقى المستمع في غاية الإثارة والاهتمام للإكمال والتفكر في الدروس دون ارتياب.
خامساً: الدقة في اختيار الكلمات التي تحمل دلالات عميقة:
حيث تجتمع الصور المتعددة من الكلمة الواحدة كما في كلمة {بشرى} وكلمة {أشده} وغيرهما، ويظهر من خلال هذا التوفير للمعاني كوثرٌ عظيم من جمال المباني، ونهرٌ غزير تتدفق فيه الصور من ربوع تلك المغاني.. إنها أحسن القصص، وإنه أعذب الحديث، ومن خلال ذلك تنعكس صورةٌ إعجازيةٌ فريدةٌ في القرآن الكريم، تبني نفسيات شباب المسلمين، الذين يمثلون الأمل المشرق القادم، عندما يجعلون القرآن الدواء لكل شقي نادم، أو كل حائر نادم، يشفي الأسقام للمرضى والمعذبين، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]، ولكل واحدٍ منهم ننادي:
أيــها الطــود الذي قد كــــان بالأمــس قويــا يزحـم الشمس ويستعصي على الغزو فتيــا
رافلاً في العزة القـــسعــــاء وضَّــاء الـمُحَيَّـا يغمر الأفـــاق بالنـــور فــــلا يــتــرك غيـا
ويبث العـــدل في الأرض فــلا يبقــي شقيــا عـد إلى ماضيك وانهض في شموخٍ للثريــا