دعوى
النسخ كاسمها دعوى، تظل مفتقرة إلى إثبات ودليل، بالطرق التي يثبت بها النسخ، كالنص
النبوي على النسخ، وتصريح الصحابي، والإجماع على القول بالنسخ، وأما ادعاء
النسخ لمجرد التعارض فغير مقبول.
ومن المشتهر بين الأصوليين والفقهاء أن: (النسخ لا يثبت بالاحتمال) وأنه: (لا يصار إلى
النسخ إلا بعد تعذر الجمع)، وأن (إعمال الدليلين مقدم على إهمال أحدهما)، و (طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة) وذلك لأن الجمع طريق لإعمال الأدلة.
فالأحاديث التي ادعي فيها
النسخ مع إمكان الجمع بينها كثيرة، نذكر أمثلة منها:
المثال الأول: ادعاء
النسخ في حديث (وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون)
وأصله في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا»
ذهب سفيان الثوري وابن المبارك وأبو حنيفة والشافعي إلى أن
الحديث السابق منسوخ بحديث عائشة في الصحيحين أيضا, وهو أنه: صلى في مرضه الذي توفي فيه قاعدا, والناس خلفه قياما.
قال الحافظ ابن حجر: وأنكر أحمد نسخ الأمر المذكور بذلك وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين:
إحداهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعدا لمرض يرجى برؤه فحينئذ يصلون خلفه قعودا.
ثانيتهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب قائما لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياما سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدا أم لا كما في الأحاديث التي في مرض موت النبي صلى الله عليه وسلم فإن تقريره لهم على القيام دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة بهم قائما وصلوا معه قياما بخلاف الحالة الأولى فإنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ الصلاة جالسا فلما صلوا خلفه قياما أنكر عليهم.
ثم قال: ويقوي هذا الجمع أن الأصل عدم
النسخ لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم
دعوى النسخ مرتين لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعدا وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعدا فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع
النسخ مرتين وهو بعيد.
قال ابن رجب معلقاً: كان الإمام أحمد يتورع عَن إطلاق النسخ؛ لأن إبطال الأحكام الثابتة بمجرد الاحتمالات مَعَ إمكان الجمع بينها وبين مَا يدعى معرضها غير جائز، وإذا أمكن الجمع بينها والعمل بِهَا كلها وجب ذَلِكَ، ولم يجز
دعوى النسخ مَعَهُ.
المثال الثاني: ادعاء
النسخ في حديث (القيام للجنازة).
ثبت قيام النبي صلى الله عليه وسلم للجنازة إذا مرت، ثم ترك القيام كما في حديث علي «أنه صلى الله عليه وسلم قام للجنازة ثم قعد» أخرجه مسلم.
قال القاضي عياض: ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث علي.
وقال النووي: قال المتولي من أصحابنا أنه مستحب وهذا هو المختار، فيكون الأمر به للندب والقعود بيانا للجواز، ولا يصح
دعوى النسخ في مثل هذا لأن
النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث ولم يتعذر والله أعلم
وقال بن حزم: قعوده -صلى الله عليه وسلم- بعد أمره بالقيام يدل على أن الأمر للندب ولا يجوز أن يكون نسخا لأن
النسخ لا يكون إلا بنهي أو بترك معه نهي.
المثال الثالث: ادعاء
النسخ في حديث (البول قائما).
ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه بال قائما عن حذيفة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما» رواه البخاري
وقد ادعى بعضهم نسخ جواز البول قائما بدليل حديث أبي هريرة: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبول الرَّجل قائمًا» رواه البيهقي وابن ماجة.
وقد أجاب ابن الجوزي على القول بالنسخ بجوابين:
الأول: ضعف الأحاديث الواردة في النهي.
والثاني: على فرض صحة الأحاديث فيحمل النهي عنه لئلا يعود رشاشه على الإنسان.
وأما قول عائشة (من حدثكم أنه كان يبول قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا قاعدا) فقد أجاب عنه ابن حجر بأنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت وأما في غير البيوت فلم تطلع هي عليه وقد حفظه حذيفة وهو من كبار الصحابة.
المثال الرابع:
دعوى النسخ في حديث (الصوم في السفر)
فقالوا: إن إفطار النبي بعد صومه في السفر، وأمره أصحابه بالفطر دليل على أن الصوم في السفر منسوخ، قال بدر الدين العيني في الرد على
دعوى النسخ هنا: لا نسلِّم صحة
دعوى النسخ، إذ لا دليل عليه، بل الدليل يدل على أن الصوم في السفر بعد إفطار النبي - عليه السلام - فيه مباح، وذلك قول أبي سعيد الخدري في حديثه: «ثم لقد رأيتني أصوم مع رسول الله - عليه السلام - قبل ذلك وبعد ذلك».
قوله: "بعد ذلك" يدل على أنه كان يصوم مع النبي - عليه السلام - بعده إفطاره - عليه السلام - في السفر وأمره الناسَ بذلك؛ فدل على أن حكم الصوم في السفر باقٍ، وأنه غير منسوخ.
المثال الخامس:
دعوى النسخ في أحاديث (قطع الصلاة بمرور المرأة والحمار والكلب الأسود).
ورد ما يدل على أن الصلاة يقطعها ثلاثة أشياء إذا مرت بين يدي المصلي وذلك في حديث أبي هريرة قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثلُ مؤخرة الرَّحْل».
وورد ما ينفي ذلك عن مسروق عن عائشة أنه ذكر عندها ما يقطع الصلاة فقالوا: يقطعها الكلب والحمار والمرأة، قالت: «لقد جعلتمونا كلابا، لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وإني لبينه وبين القبلة وأنا مضطجعة على السرير فتكون لي الحاجة فأكره أن أستقبله فأنسل انسلالا». رواه البخاري.
فادعى بعض الفقهاء نسخ الأول بالثاني، ولم يرتض ذلك أكثر الفقهاء، وآثروا الجمع على النسخ، فحملوا
الحديث الدال على القطع على قطع الخشوع، وليس بطلان الصلاة، قال النووي: وأما ما يدعيه أصحابنا وغيرهم من
النسخ فليس بمقبول إذ لا دليل عليه ولا يلزم من كون حديث ابن عباس في حجة الوداع وهى في آخر الامران يكون ناسخا، إذ يمكن كون أحاديث القطع بعده وقد علم وتقرر في الأصول أن مثل هذا لا يكون ناسخا مع أنه لو احتمل
النسخ لكان الجمع بين الأحاديث مقدما عليه إذ ليس فيه رد شئ منها وهذه أيضا قاعدة معروفة والله أعلم.
المثال السادس:
دعوى النسخ في مشروعية صلاة الركعتين قبل صلاة المغرب
فقد روى أبو داود عن عبد الله المزني قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال: صلوا قبل المغرب ركعتين لمن شاء». خشية أن يتخذها الناس سنة
قالوا: إنما كان ذلك بداية الأمر ليبين لهم جوازها بعد أن نهاهم عن الصلاة بعد العصر، ثم نسخ بتركه، والجواب عليهم: بأن
دعوى النسخ لا تثبت بمثل هذا الاحتمال، وما نقل عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من أنهم كانوا لا يصلونها فمنقطع الرواية، ولو ثبت لم يكن فيه دليل على
النسخ ولا الكراهة.
وقد ثبت عن كثير من الصحابة المواظبة عليها بأسانيد صحيحة ذكرها الحافظ في فتح الباري.
المثال السابع:
دعوى النسخ في (وجوب قطع الخفيين للمحرم إن لم يجد نعلين).
فقد ورد في ذلك حديثان الأول عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين». رواه البخاري
والحديث الثاني: عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يجد نعلين فليلبس خفين». رواه مسلم
فقد قال الإمام أحمد بأنه لا يجب قطعهما، لأن حديث ابن عمر في القطع كان في المدينة، وحديث جابر في عرفة ولو كان واجبا لبينه في ذلك الجمع العظيم.
وأجيب بمنع
دعوى النسخ، لأن الروايتين صحيحتين ويمكن حمل حديث جابر المجرد عن اشتراط القطع على رواية ابن عمر التي فيها اشتراط القطع، وكون جابر لم يذكرها محمول على نسيانه لها أو لم يذكرها الرواة عنه كما أجاب به الشافعي.
وإنما يكثر ادعاء
النسخ هذا عند بعض المذاهب التي تعتبر الزيادة على النص نسخا، فتخصيص العام نسخ، وكذلك تقييد المطلق، وهي مسألة أصولية مشهورة.
قال شيخ الإسلام عن أحد تلك الأحاديث: «والمدعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ، لا من كتاب ولا سنة، وهذا شأن كثير ممن يخالف النصوص الصحيحة والسنة الثابتة بلا حجة، إلا مجرد
دعوى النسخ، وإذا طولب بالناسخ، لم يكن معه حجة لبعض النصوص توهمه ترك العمل. إلا أن مذهب طائفته ترك العمل بها إجماع، والإجماع دليل على النسخ. ولا ريب أنه إذا ثبت الإجماع كان ذلك دليلاً على أنه منسوخ، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة. ولكن لا يُعرف إجماع على ترك نص، إلا وقد عُرِفَ النص الناسخ له. ولهذا كان أكثر من يدعي نسخ النصوص بما يدعيه من الإجماع، إذا حقق الأمر عليه، لم يكن الإجماع الذي ادعاه صحيحاً. بل غايته أنه لم يعرف فيه نزاعاً، ثم من ذلك ما يكون أكثر أهل العلم على خلاف قول أصحابه، ولكن هو نفسه لم يعرف أقوال العلماء».