حرم القرآن الكريم
الزواج من غير المسلمات، وذلك في قوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } (البقرة:221)؛ وبالمقابل، فقد جاء في آية أخرى ما يدل على مشروعية
الزواج بالنساء من أهل الكتاب؛ فبعد أن أحل الله سبحانه الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب، والزواج بالعفيفات من المؤمنات، عطف على ذلك بقوله: { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } (المائدة:5)، فبين سبحانه - بنص هذه الآية - مشروعية
الزواج من نساء أهل الكتاب .
وظاهر هاتين الآيتين يشعر بالتعارض بينهما؛ وذلك أن آية البقرة صرحت بحرمة
الزواج من المشركات، في حين أن آية المائدة بينت أن
الزواج من الكتابيات أمر مشروع. وإذ الأمر كذلك، فكيف وفق العلماء بين هذا التعارض ؟
يحسن بنا بداية، أن نبين المقصود بمصطلح ( أهل الكتاب )، الذي ورد في النصوص الشرعية بكثرة؛ فهذا المصطلح يراد به: من قام دينهم في الأصل على كتاب سماوي، وإن حُرِّف وبدل بعدُ، كاليهود والنصارى، الذين قام دينهم على التوراة والإنجيل .
هذا، وقد سلك العلماء مسلكين للجمع بين الآيتين موضوع المقال:
المسلك الأول: أن آية المائدة: { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب }، خصصت عموم آية البقرة: { ولا تنكحوا المشركات }؛ وعلى هذا يكون الجمع بين الآيتين بأن نقول: لا يجوز
الزواج من المشركات، إلا إن كن من أهل الكتاب، فيجوز
الزواج منهن، كما جاز الأكل من طعامهم في قوله تعالى: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } (المائدة:5)؛ وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن }، ثم استثنى نساء أهل الكتاب، فقال: { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } حل لكم، رواه الطبري . وهذا الجمع بين الآيتين هو الذي ذهب إليه أغلب أهل العلم، ونقل الطبري الإجماع على ذلك .
وبحسب هذا المسلك، يكون معنى آية البقرة: { ولا تنكحوا } أيها المؤمنون { المشركات }، غير أهل الكتاب، { حتى يؤمن }، فيصدقن بالله ورسوله وما أنزل عليه .
المسلك الثاني: أن المراد بآية البقرة مشركات العرب فحسب، لم ينسخ منها شيء، ولم يستثن منها شيء، وآية المائدة خاصة بنساء أهل الكتاب، ويعبر أهل العلم عن هذا، بقولهم: عام أريد به الخصوص، أي إن اللفظ عام، لكن أريد به بعض هذا العموم، لا جميعه؛ وعليه، فآية البقرة وإن كان لفظها - في الظاهر - عامًا في كل مشركة، إلا أن المراد به - حقيقة - خصوص المشركات الوثنيات، فلا يدخل في عمومها نساء أهل الكتاب .
وقد رجح الإمام الطبري هذا المسلك في تأويل الآية، وجمع بين الآيتين على أساسه؛ وقرر أن الأولى في تأويل الآية أن يقال: إن الله تعالى عنى بقوله: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن }، من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات، وأن الآية عام ظاهرها، خاص باطنها، لم ينسخ منها شيء، وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها .
وقريب من هذا المسلك، مع اختلاف في التوجيه والمأخذ، ما ذهب إليه بعض أهل العلم، من أن موضوع كل آية، يختلف عن موضوع الآية الأخرى، وبيان ذلك؛ أن ظاهر لفظ ( الشرك ) في قوله سبحانه: { ولا تنكحوا المشركات }، لا يتناول أهل الكتاب، لقوله تعالى: { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } (البقرة:105)؛ ولقوله أيضًا: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } (البينة:1)، قالوا: فقد فرقت الآيتان بين المشركات وبين أهل الكتاب في اللفظ، وعطفت بينهما بحرف العطف، الذي يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه .
وحاصل ما تقدم: أن الصحيح من أقوال أهل العلم في الجمع بين الآيتين، وهو الذي ذهب إليه أكثر المفسرين، أن عموم آية البقرة، قد خُص بآية المائدة؛ وتخصيص عموم الأدلة الشرعية مسلك ثابت وصحيح، حتى إنه قد قيل في هذا الشأن: ما من عامٍّ إلا ودخله التخصيص. وبهذا يتبين وجه التوفيق بين الآيتين الكريمتين .