تحدث القرآن الكريم عن أنواع عديدة ومتنوعة من عذاب الكفار يوم القيامة، فتوعدهم بالعذاب العظيم، والعذاب المهين، والعذاب الأليم، والعذاب الشديد، والعذاب المقيم، والعذاب الجحيم، والعذاب الغليظ، والعذاب المحيط، والعذاب العقيم، والعذاب الكبير، والعذاب الأكبر، والعذاب الواصب، وعذاب الحريق، وعذاب الخلد، وعذاب جهنم، وعذاب السعير، وعذاب الحميم، وسوء العذاب، وعذاب السموم، وغير ذلك كثير من أنواع العذاب وألوانه جزاء بما كسبت أيديهم.
ومن جملة أنواع العذاب التي ذكرها سبحانه في حق أهل الكفر والعناد،
طعام خاص بأهل النار، يأكلونه اضطراراً؛ ليسدوا به جوعتهم، فينالهم من ذلك الطعام عذاب أشد إيلاماً من ألم الجوع، وهذا الطعام هو ( الغسلين )، قال تعالى: {فليس له اليوم ها هنا حميم * ولا
طعام إلا من غسلين} (الحاقة:35-36)؛ ومن جملة أنواع العذاب أيضاً
طعام يسمى (الضريع): قال سبحانه: {ليس لهم
طعام إلا من ضريع} (الغاشية:6).
والمتأمل في هاتين الآيتين الكريمتين يجد أن كل آية منهما حصرت
طعام أهل
النار بنوع غير النوع الآخر؛ فذكرت الآية الأولى أن الكافر لا
طعام له يوم القيامة {إلا من غسلين}، وذكرت الآية الثانية أن الكافر لا
طعام له يوم القيامة {إلا من ضريع}.
وهذا الحصر في كلا الآيتين قد يفهم منه البعض أن فيه تعارضاً وتناقضاً؛ ودفعاً لما قد يُفهم من تعارض بين الآيتين، فإننا نبين وجه التوفيق والجمع بينهما، لكن نستبق ذلك ببيان معنى (الغسلين) ومعنى (الضريع):
فـ (الغسلين) -كما يقول أهل اللغة- هو ما يخرج من الثوب ونحوه بالغسل؛ ثم استعمل في كل جُرح غُسِل فخرج منه شيء، فهو غسلين، من الغسل؛ واستعمله القرآن في كل ما يسيل من جلود أهل النار، كالقيح والصديد وغيرهما، كأنه يُغسل عنهم.
ثم لأهل التفسير أقوال متعددة في المقصود بهذا اللفظ، والمنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما حَبر القرآن روايتان: إحداهما: قوله: ما أدري ما الغسلين، ولكني أظنه الزقوم. ثانيهما: قوله: الغسلين الدم والماء يسيل من لحومهم. وقال قتادة: الغسلين: شر الطعام وأخبثه وأبشعه.
أما (الضريع): فهو نبت يقال له: (الشبرق)، ويسمية أهل الحجاز: (الضريع) إذا يبس، ويسميه غيرهم: الشبرق، وهو سم. وهذا المعنى في (الضريع) مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعكرمة ومجاهد وقتادة.
وعلى ضوء معنى (الغسلين) ومعنى (الضريع) يتبين أنهما ليسا شيئاً واحداً، وأنهما ليسا اسمين لمسمى واحد، بل هما شيئان مختلفان، وهذا ما دفع أهل التفسير للتوفيق بين معنى الآيتين، وقد ذهبوا في الجمع بينهما مذاهب شتى، حاصلها أمران:
الأول: أن العذاب يوم القيامة ألوان وأشكال، والمعذبون طبقات ودرجات؛ فمنهم من لا
طعام له {إلا من غسلين}، ومنهم من لا
طعام له {إلا من ضريع}، ومنهم من لا
طعام له إلا {الزقوم} (الصافات:62)؛ يرشد لهذا التنوع في العذاب قوله تعالى في وصف النار: {لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} (الحجر:44)، فكل باب من هذه الأبواب اختص بفريق من أهل الكفر، وكل باب من هذه الأبواب داخله مغاير لما في داخل الباب الآخر، فإذا تعددت الأبواب، وتنوعت المقامات دل ذلك على تنوع أنواع العذاب.
ونحو هذا ما روي عن عليٍّ رضي الله عنه، أنه كان يخطب، فقال: إن أبواب جهنم هكذا، قال الراوي: أطباقاً بعضها فوق بعض، أي: إن أهل الكفر والداخلين في
النار منازل بحسب أعمالهم. فإذا تعددت المنازل دل على تعدد وتنوع ما يكون فيها من أنواع العذاب. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. ويرشد لكون أهل العذاب طبقات ودرجات قوله سبحانه: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (النساء:145).
وبحسب هذا التوجيه، يكون كل نوع من الطعام مخصصاً لفريق من أهل النار، ففريق يكون طعامه الغسلين، وفريق آخر يكون طعامه الضريع، وفريق ثالث يكون طعامه الزقوم، وهكذا. ولا يلزم من كون (الغسلين) طعاماً لهذا الفريق، و(الضريع) طعاماً لذاك الفريق تعارضاً فيما نصت عليه كل آية من الآيتين، فغاية ما في الأمر، أن كل آية تحدثت عن نوع من الطعام المخصص لهذا الفريق أو ذاك. هذا توجيه أول للجمع بين الآيتين، ذكره كثير من المفسرين، كالقرطبي، والزمخشري، والرازي، وغيرهم.
الثاني: أن المعنى في الآيتين وما شاكلهما، أنهم لا
طعام لهم أصلاً؛ لأن (الضريع) لا يصدق عليه اسم الطعام، ولا تأكله البهائم، ومن باب أولى الآدميون؛ وكذلك (الغسلين) ليس من الطعام في شيء. فمن طعامه (الضريع) لا
طعام له؛ ومن طعامه (الغسلين) كذلك، ويكون التعبير بهذا الأسلوب من باب المبالغة. ومنه قولهم: فلان لا ظل له إلا الشمس، ولا دابة له إلا دابة ثوبه، يعنون القمل ومرادهم. لا ظل له أصلاً، ولا دابة له أصلاً. وهذا وجه ثان للجمع بين الآيتين، ذكره الآلوسي والشنيقطي.
ولا بأس أن نشير هنا إلى أن ثمة وجهاً ثالثاً للتوفيق بين الآيتين، ذكره الإمام القرطبي، حاصله أن تُحمل الآيتان على حالتين، حالة يكون فيها طعامهم الضريع دون غيره؛ وحالة ثانية يكون طعامهم الغسلين، ولا شيء غيره. ويرشح هذا المعنى قوله تعالى: {يطوفون بينها وبين حميم آن} (الرحمن:44)، أي: تارة يعذبون في الجحيم، وتارة يسقون من الحميم، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب، يقطع الأمعاء والأحشاء.
وعلى ضوء ما تقدم من تلك التوجيهات، يتبين أن لا تعارض بين هاتين الآيتين، بل هما متوافقتان غاية الوفاق؛ وصدق الله حيث يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء:82).